من المثير للدهشة أن هناك من لا يزالون يتحدثون ويحللون ويكتبون عن «المخطط الأمريكى لتقسيم المنطقة إلى دويلات وإمارات طائفية مذهبية»، مع أن هذا المخطط جرى تنفيذه بالفعل منذ سنوات، وأصبح حقيقة على الأرض وأننا تقريباً نعيش فى منتصفه، وفى عمق أحداثه إلى الدرجة التى لم نعد فيها نرى تفاصيل اللوحة بالكامل. نشاهد فقط أجزاءً وملامح منها كل يوم على شاشات التليفزيون وهى تعرض ما يجرى فى العراق وسوريا وليبيا واليمن، بعد أن عشنا وشفنا من قبل فيلم تقسيم السودان وما نتابعه الآن فى مصر على حدودها الغربية وفى سيناء والصعيد! ونحن إذا استعرضنا بقية أجزاء ما كان يُسمى فى الماضى «الوطن العربى»، سوف نجد أن البحرين مهددة وأن تونس والجزائر فوق بركان وأن الأسر الملكية الحاكمة فى السعودية والأردن والمغرب تحاول كل منها أن تجد مخرجاً، إما بالتحالف مع الحكم الإسلامى فى تونس فى حالة ملك المغرب وإما التحالف والتنسيق مع مصر فى حالة السعودية والأردن، ثم تأتى دولة الإمارات لتلقى بنفوذها الاقتصادى والسياسى كله فى الكفة المصرية التى ما زالت حتى الآن تمثل أقوى أوراق المعادلة العربية فى مواجهة «آخر حروب التقسيم» الدينى المذهبى والعرقى فى المنطقة. والذى نراه اليوم بالصوت والصورة على التليفزيون وما تنقله لحظة بلحظة أجهزة إعلام غربية جبارة مرتبطة بشكل وثيق بأجهزة مخابرات بلادها، هى أحدث معارك عملية «جمل الصحراء العجوز» المطلوب تركيعه ثم ذبحه وتقطيعه قطعاً صغيرة، حسبما خطط كيسنجر وزير خارجية أمريكا خلال حرب النفط الكبرى فى 73، وحسبما بدأ التنفيذ الفعلى للخطة تحت مسمى عملية الشرق الأوسط الكبير على يد ديك تشينى وكوندوليزا رايس! والحقيقة أنه بعد غزو العراق، شهدت المنطقة فشلاً أمريكياً ذريعاً عند التطبيق العملى لبقية فصول مخطط التقسيم. اتهامات عقيمة لسوريا وليبيا بالقيام بنشاط نووى محظور والتفتيش على منشآتهما، ثم التحريض على «الفوضى الخلاقة» فى مصر ومحاولات بائسة لتجنيد واستغلال منظمات المجتمع المدنى وجماعات الشباب اليائس من التغيير، إلى أن جاءوا فى واشنطن بالبديل باراك أوباما الذى يعتبره فريق من المحللين الأمريكيين «المنقذ الكبير» للمشروع الأمريكى فى الشرق الأوسط.. ولم يكن وصول باراك حسين أوباما ذى الأصول الإسلامية فجأة من قاع السياسة الأمريكية إلى قمتها فى سنوات قليلة وليد الصدفة، ولكن الرجل جرى تصنيعه على عجل وتصعيده لينفّذ أخطر المراحل التاريخية للمشروع.. وهى الدفع بالإسلاميين للسلطة عبر الانتخابات، ثم وبشكل موازٍ ومنسق تشجيع ودعم وتمويل كل جماعات العنف والإرهاب التى ترفع شعارات إسلامية، سواء تلك المرتبطة تنظيمياً ب«القاعدة» والموجودة فى اليمن والسعودية والعراق، أو المتفرعة منها وترفع شعارات انفصالية فى سوريا وليبيا، وبالطبع تأتى عباءة الإخوان فى مصر والتنظيم الدولى لتظلل الجميع وتعطيهم مشروعية زائفة باعتبارهم جميعا «مجاهدين» ضد أنظمة فاسدة! وهذا كله يعنى أن آخر حلقات المشروع الأمريكى المسمى «داعش»، والذى يقول إنه يسعى لإقامة دولة الخلافة الإسلامية هو فى الحقيقة كيان وهمى شاذ وملفق بالكامل، فلا يمكن أن تسمح أمريكا، ومعها الغرب الاستعمارى كله بعودة الروح مرة أخرى إلى جسد دولة الخلافة التى قتلوها وشبعت موتاً بعد حروب دامية فى أوروبا راح ضحيتها ملايين البشر، ولكن «داعش» هى فيروس أمريكى هجين تم إلقاؤه فى مستنقع المنطقة ليقسم المقسم ويفتت المفتت ويغلف المشهد بضباب كثيف، وليكون بعبع الخليج الجديد بعد صدام وإيران وأيضاً لتصبح «داعش» عند اللزوم منصة إطلاق النار ومخزن تصدير الإرهابيين لمصر بالذات! وما تقوم به «داعش» فى العراق من مذابح ومن تهجير وقتل للمسيحيين واليزيديين والتركمان هى كلها مهام مكلفة بها حسب المشروع الأمريكى، أما حكاية تهديدها للأمريكيين فى قاعدة أربيل أو التلويح برفع علمهم الأسود فوق البيت الأبيض، ثم مسرحية الضربة الكرتونية الأمريكية الأخيرة لموقعين لهم قرب كركوك.. فهذا كله من باب الإخراج السينمائى الأمريكى الركيك.. فلا أحد فى العالم شاهد أى خسائر ل«داعش» بعد هذه الضربة، وبالتأكيد فإن أمريكا لن تمس «داعش» قبل أن تحقق أهدافها تماماً كما فعلت من قبل مع «القاعدة».. السيناريو القديم يجرى تنفيذه بدقة وب«حماس» والمخطط مستمر.. ومصر دائماً هى الجائزة الكبرى، والهدف هو سقوط القاهرة كما سقطت بغداد وطرابلس ودمشق التى تلفظ أنفاسها الأخيرة!!