ضج الإعلام العلمي ووسائل التواصل الإليكترونية والشبكات الاجتماعية بمشاركات العلماء والمهتمين بالعلوم، بعد نشر خبر انتحار العالم الياباني المرموق "يوشيكي ساساي" يوم الثلاثاء الماضي، وهو الباحث المشارك في بحث حظي بالإشادة في بادئ الأمر بعد نشره في دورية "نيتشر" العلمية العالمية، وأعطى أملًا كاذبًا في العلاج بالخلايا الجذعية، وتم سحبه مؤخرًا بعد الكثير من الجدل والنقاشات العلمية المستفيضة، وشكل انتحاره صدمة كبيرة لجميع المهتمين بالبحث العلمي على مستوى العالم. وأول سؤال ورد لأذهان المتابعين للشبكات الاجتماعية، وتردد بشكل كبير هو: هل يفعلها أحد في بلداننا العربية، وهل يعتذر المخطئ على الأقل عن خطئ علمي أو نشر بحث ملفق لم يستوف شروط الدقة والأمانة العلمية اللازمتين لأي بحث متخصص، ليبرئ ساحته لدى العامة؟ فضلا عن التساؤلات العديدة الساخرة التي طالت مبتكري علاج فيروسي الإيدز و "سى"، وهل يعتذروا للرأي العام المصري والعالمي إذا ثبت عدم كفاءة هذا العلاج في النهاية؟ وبقدر الصدمة الكبيرة التي أصابت المجتمع العلمي، إلا أن الجميع لم يستطيعوا أن يخفوا إعجابهم بفرط تحمل هذا الباحث المرموق للمسؤولية واستعداده لأن يضحى بحياته كاعتذار عن خطأ لا يكاد يشعر به العديد من المشتغلين بالبحث العلمي في مصر وفى عالمنا العربي، لأن الانتحار في اليابان ليس كأي انتحار، بل هو قرار مصيري هام للغاية يتخذه الشخص للإعراب عن تحمّله للمسئولية، وليمسح الخزي والعار وهو بمثابة اعتذار للجميع عن خطأ جسيم تم ارتكابه، وعادة ما يمتدح فاعله لأنه قدّم حياته في سبيل ذلك. ولقد بدأت معرفتي بعالم الأحياء المنتحر "يوشيكي ساساي"، والمختص في علوم الخلايا الجذعية وهندسة الأنسجة، أثناء ترجمتي لمقال لدورية "نيتشر" الطبعة العربية تحت عنوان: "صانع الدماغ" نشر في عدد شهر أكتوبر 2012، ثم تلي ذلك ترجمة لعدة ملخصات بحوث هامة نشرت في نفس المجلة في مجال هندسة الأنسجة، وكان يتردد فيها اسمه بكثرة. وكان "ساساي" نائبًا لمدير مركز "ريكن" لعلم الأحياء التطوري، وأحد أعضاء فريق علمي بجامعة هارفارد بالولايات المتحدةالأمريكية، الذين نشروا بحثا بدورية "نيتشر" البريطانية في يناير الماضي، وأعطى هذا البحث أملاً في استبدال الخلايا المتضررة واستنبات أعضاء بشرية جديدة. وأشرف "ساساي" على عمل كبيرة الباحثين، "هاروكو أوبوكاتا"، وجذبت دراساتهم اهتمام وسائل الإعلام العالمية، ولكن أثيرت تساؤلات حول وجود تجاوزات في الأبحاث بعد ذلك. وقد أعجب باحثون كثيرون حول العالم بموهبة "ساساي" خضراء الأصابع في دفع الخلايا الجذعية العصبية للنمو كهياكل مفصلة متميزة. وقد زرع طبقات الأنسجة الحساسة من قشرة الدماغ، والغدة النخامية الأولية، صانعة الهرمونات. وكان في طريقه إلى إنماء المخيخ، وهو جزء الدماغ الذي ينسق الحركة والتوازن. ويقول "لوك لينز"، عالم الخلايا الجذعية بجامعة بروكسل الحرة عن أبحاثه: "هذه الأوراق البحثية قدمت أهم سلسلة مقروءة بنهم من الأوراق البحثية المرتبطة بالخلايا الجذعية في السنوات الأخيرة". وتتخطى أبحاث "ساساي" هندسة الأنسجة، لأنها تناولت العديد من الأسئلة التي حيرت علماء البيولوجيا التطورية لعدة عقود. مثل كيف تستطيع الخلايا الجذعية الجنينية المتكاثرة تنظيم نفسها بسهولة إلى هياكل معقدة من الجسم والدماغ؟ وهل يقود تكوين الأنسجة برنامج وراثي فعلي للخلايا، أو يتشكل بواسطة إشارات خارجية من قبل الأنسجة المجاورة؟ ومن خلال الجمع بين الحدس والتجربة والخطأ بصبر، وجد "ساساي" أنها تقتضي توازنا دقيقا من كليهما، حيث هيأ بيئات محكومة تغذي الخلايا بإشارات فيزيائية وكيميائية، وأطلقت للخلايا العنان للقيام بما عليها وتنظيم أنفسها بحسب الحالات. وقد تجد أعمال "ساساى" تطبيقات طبية مثل تلخيص التطور الجنيني في ثلاثة أبعاد، وهو يولد خلايا مفيدة سريريا مثل المستقبلات الضوئية بزخم أكبر وكفاءة أكثر من المزرعة ثنائية الأبعاد، وتسكنهم في معمار يعكس صورة الجسم البشر. وحاول "ساساى" ومعاونيه زرع شبكية العين المستنبتة في المختبر لدى القرود والفئران والبشر. وكان يرى أن الخلايا الجذعية الناضجة في مزرعة ثنائية الأبعاد قد تؤدي إلى ‹الجيل القادم› من العلاج، لكن أساليبه ستؤدي إلى علاجات الجيل القادم والجيل الذي بعده بإذن الله. درس "ساساى" الطب كالعديد من أفراد أسرته. لكنه سرعان ما أصبح محبطًا لافتقاد الفهم الأساسي بهذا المجال، خاصة عندما يتعلق الأمر بحالات الأعصاب. وكان يفكر أنه «بدون معرفة الدماغ، لا يستطيع الطبيب أن يفعل الكثير بالنسبة للمريض وستبقى العلاجات دائما سطحية». وكما يبدو، ليست هناك طريقة أفضل لمعرفة الدماغ سوى دراسة كيفية نشوئه وتكوين تضاعيفه لدى الجنين. وقال "ساساى": «إنها منظومة مركبة وعادة ما تكون المنظومات المركبة فوضوية». «لكنه أحد أكثر المنظومات ترتيبًا». لقد أراد أن يعرف كيفية السيطرة على هذه المنظومة بالغة التفصيل. وقبل "ساساى" عملا بحثيًا لما بعد الدكتوراه بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، لكن هذا المشروع تعثر في بدايته، عندما سرقت أمواله وجوازات السفر بالمطار في طريقه إلى كاليفورنيا. ويقول عالم البيولوجيا التطورية المشرف عليه "إيدي دي روبيرتس": «استصدر جوازات سفر جديدة وفي غضون شهر أنتج المستنسخات، التي أعطتنا جين "كوردين" الشهير. وقد اكتشف "ساساى" وزملاؤه أن بروتين "كوردين" هو الإشارة التطورية الرئيسة الصادرة عن منظم "سبيمان" فبدلا من دفع الخلايا المجاورة لتصبح خلايا عصبية، وجدوا أن "الكوردين" يوقف الإشارات التي من شأنها أن تحولها إلى نوع آخر من الخلايا وساعد العمل على إنشاء نموذج أساسي للحث العصبي. وأحدث "ساساى" تغيرات طفيفة بظروف مزرعة الأنسجة لدفع الخلايا للسير بطريق النمو. فقام بهندسة جينات فلورية ‹جينات مراسلة› وراثيا في الخلايا الجذعية بحيث يتم التعبير عنها عندما تتمايز الخلايا إلى النوع المطلوب - خلايا السلائف الشبكية في هذه الحالة - وتكشف ما إذا كان النظام يعمل كما هو مطلوب. وقال "ساساى": «إن نجاحنا يعتمد على معرفة كيف أن تعديلات طفيفة يمكن أن تؤدي إلى تغيير جذري». ووضع "ساساى" الأنسجة العصبية الأكثر تركيبا نصب عينيه. وأفاد في نوفمبر الماضي أنه قد تم تكوين جزء من الغدة النخامية، وهو نسيجه المستنبت «الأكثر تعقيدا» حتى الآن. وكان "ساساى" يرغب في تحسين جهوده المبكرة باستنبات غدة نخامية أفضل، ومزودة بإمدادات الدم؛ واستنبات قشرة الدماغ بطبقات أنسجتها الست، ومستقبلات ضوئية ناضجة بما يكفي للكشف عن الضوء. وكان يخطط بنهاية المطاف لأن يستنبت الدماغ كله. لكنه لا يقصد بناء دماغ كامل، بل كان يريد أن يقف على كيفية عمل أجزاء الدماغ، مع قدرتها الملحوظة على النمو المستقل والتنظيم، والتجمع والانطواء في هيكل له هذه التعقيدات الهائلة. وكان "ساساى" نائبا لمدير المعهد الحكومي للعلوم الطبيعية "ريكين - " في اليابان، وأشرف على عمل كبيرة الباحثين "هاروكو اوبوكاتا" الذي أحدث ضجة عندما نشر في دورية "نيتشر" العلمية البريطانية في عدد يناير 2014 وجاء في الورقتين البحثيتين انهما توصلا إلى طريقة بسيطة لتنمية أنواع مختلفة من الأنسجة من الخلايا الحية بواسطة حمّام حمضي وبعد نشر هذه البحوث حصلت "اوبوكاتا" على شهرة واسعة، ولكن بعد مضي بعض الوقت بدأ العديد من العلماء يشكون في مصداقية النتائج التي ذكرها "ساساي" و"ابوكاتا". والورقتان البحثيتان اللتان تصفان تقنية الحمّام الحمضي خضعتا للمزيد من التدقيق، بعدما وجد التحقيق الذي قام به المعهد أخطاء في المنهج العلمي المستخدَم. وتناولت الورقتان البحثيتان تقنية جديدة، يمكن من خلالها إعادة برمجة الخلايا البالغة لتحويلها إلى خلايا جنينية عن طريق تعريضها للإجهاد. وقد كشفت المؤسسة التي تنتمي إليها المؤلفة الرئيسة وجود «أخطاء جسيمة» بمنهجية الورقتين، ليتبع ذلك إثارة للشكوك حول صحة أطروحة الدكتوراه للمؤلفة، والخلايا المستخدمة في الدراسة. وفي يوم 14 مارس الماضي، أعلنت منظمة "رايكن"، وهى أكبر منظمة بحثية في اليابان والتي تدير مركز علم الأحياء التطوري في مدينة "كوبي"، حيث تعمل المؤلفة الأولى للورقتين البحثيتين والعديد من زملائها، النتائجَ المرحلية لتحقيقاتها في مزاعم عن وجود مفارقات منهجية بمحتوى الورقتين. وقد نصحهم أحد محققي منظمة "رايكن" بسحب الورقتين البحثيتين. وقد بلغت تطورات هذا الأمر إلى أن المحققون شَكَّكَوا في جودة أطروحة "أوبوكاتا" للدكتوراه، والتي هي بالفعل قيد التحقيق من قبل الجامعة التي منحتها. وصرّح أحد المؤلفين المشاركين في الورقتين البحثيتين حول إعادة برمجة الخلايا أنه سيرسل بعض الخلايا التي نتجت من التجارب كي يُتحقَّق منها من قبل طرف مستقل. وتمخضت جميع هذه الشكوك بسحب كافة المقالات التي نشرها "ساساي" و"ابوكاتا"، وبدأت التحقيقات في الموضوع، مع بقاء "ابوكاتا" مصرة على أن كل ما ورد في المقال صحيح. أما "ساساي" فكان أكثر حذرا منها، حيث اعتبر هذه الخلايا بأنها فرضية بحاجة إلى برهنة. وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير هي إعلان معهد "رايكن" أن «التحقيق، الذي أجراه توصل إلى أن "ابوكاتا" انتحلت واختلقت أجزاء من البحث، مما أثار الشكوك بشأن مصداقية العلم في اليابان بشكل عام. وبعد شهور من الجدل المتواصل، خلص المعهد في أبريل الماضي إلى أن "أوبوكاتا" التي قادت الفريق البحثي، قد زورت الدراسات، ولقد كتبت مقالا عن هذا الموضوع بموقع جريدة "الوطن تحت عنوان: "في البحث العلمي .. الاعتذار من شيم الكبار!" ذكرت فيه تفاصيل هذه المناقشات التي وصلت في نهاية الأمر لقيام دورية "نيتشر" مؤخرا بسحب البحثين العلميين الذين آثارا جدلا ولغطا كبيرين، وبعد أيام من هذا القرار فوجئ العالم بانتحار "ساساي"، بعد أن دخل في نوبة إحباط شديدة دفعت به للدخول إلى إحدى المستشفيات بعدما عانى من الضغوط وأصبح لا يستجيب كثيرا لأسئلة الإعلام أثناء الجدل بشأن البحث الذي أجراه الفريق، ثم انتحاره في النهاية بعد شهور من الضغوط والإرهاق. وقالت الشرطة ومعهد "رايكن" العلمي الذي كان يعمل به "ساساي" إنه تم العثور على جثة العالم في وقت مبكر يوم الثلاثاء الماضي. وقال متحدث باسم الشرطة "إنه انتحار مؤكد. كان مشنوقا". وبالطبع لم يمهل القدر "ساساى" لتحقيق أحلامه على المستوى البحثي بعد كارثة سحب البحث العلمي من دورية "نيتشر". ولقد أقدم "ساساى" على الانتحار لأنه ينظر للانتحار في اليابان بكثير من التبجيل والاحترام كونه آخر ما يتبقى للمرء من مظاهر الكبرياء والاعتزاز بالنفس. واليابان هي الدولة الوحيدة في العالم التي لها طريقة معينة في الانتحار مسجلة باسمها، وهي طريقة "الهاراكيري" وتعني "قطع البطن". وأتت في الأصل من ثقافة "الهاراكيري" التي اشتهر بها المحاربون القدماء "الساموراي". وتُصدر الحكومة اليابانية قبل نهاية كل عام ميلادي تقريرا فريدا يدعى "سجل الانتحار الوطني". وهو سجل يرصد مؤشر الانتحار في المجتمع الياباني، وعدد المنتحرين اليابانيين يزيد على الثلاثين ألف شخص في العام الواحد، أي بمعدل انتحار شخص كل 18 دقيقة. وهي من أعلى النسب في العالم والنسبة الأعلى في الدول الصناعية الكبرى. وإذا أضافنا عدد محاولات الانتحار التي يخفق منفذوها في التخلص من حياتهم فيها وهي أكثر من حالات الانتحار نفسها، نجد أننا أمام ظاهرة خطيرة ومنتشرة في اليابان. ومن أشهر حالات الانتحار، انتحار أشهر كتاب اليابان المعاصرين "يوكيو ميشيما" في عام 1970. وانتحار وزير الزراعة الياباني "توشيكاتسو ماتسؤكا" على خلفية اتهامات له بالفساد واستغلال المنصب الوظيفي في أعمال غير مشروعة. وخلال الحرب العالمية الثانية فوجئ العالم بظهور قوات "الكاميكازيه" التي هي عبارة عن فرق خاصة تقوم بعمليات عسكرية انتحارية ضد الجيش الأمريكي من أجل الإمبراطور الذي يعتبرونه إله ويعتبرون أن بذل النفس من أجله غاية المجد والشرف. إذاً الانتحار سواء بالهاراكيري أو بوسيلة أخرى هو بصفة عامة فعل ينّم على تحمل المسئولية وينم على الندم والأسف. وفي الماضي كان يمجد من ينتحر لهذه الأسباب لأن اليابانيين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فالمنتحر في أغلب الأحوال يعتقد أنه السبب في كل ما يجري له، وأن هناك حوله الكثيرون الذين يعانون بسببه سواء كانوا أهله أو مرؤوسيه أو رؤساءه أو حتى عامة الناس. وأن تخلصه من حياته هو عمل يقتضيه منطق الشرف والأمانة، وإنه بذلك سيريح ويستريح. خاصة أن أغلب اليابانيين الآن يؤمنون بتناسخ الأرواح، وأنه سيولد مرة أخرى في هذه الحياة وسيكون وضعه فيها بناء على أفعاله فيها فإن فعل خيراً فخير، وإن شراً فشر. ومثلما أن وراء كل عظيم امرأة، فإن وراء العالم المرموق المنتحر "يوشيكي ساساي" امرأة أيضا، لم تتحرى الدقة، وضربت عرض الحائط بالأمانة العلمية، والتي أدت في نهاية المطاف لانتحار زميلها المشارك في هذا العمل لإحساسه بالندم والخجل والعار، وحفاظا على سمعة بلده العلمية، وهو يعتبر أن هذا أقل اعتذار ممكن عن جرمه الكبير في حق نفسه وبلده. ولقد ضرب "ساساي" أروع الأمثلة لتحمل المسؤولية الأدبية عن خطأ علمي جسيم، وضحى بحياته من أجل تصحيح هذا الخطأ حسب اعتقاده وعاداته وتقاليده، ألا ليت قومي يعلمون.... فمتى يستيقظ الغافلون؟! * أستاذ التقنية الحيوية المساعد كلية العلوم والآداب ببلجرشي جامعة الباحة-المملكة العربية السعودية.متخصص في الوراثة الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية-قسم النبات، كلية العلوم، جامعة القاهرة.