نحن من نصنع أوهامنا ونحن من نعظمها، وثقافة الوهم قابعة ومتجذرة فينا على مستوى الفرد والمجتمع. نحن أسرى تشكيلة فاخرة من الأوهام، والتغيير لن يبدأ إلا بتشفير ودحض هذه الثقافة المتوغلة فى كل أطراف الحياة؛ فى التعليم لا بد من نسف ثقافة القمة والقاع، فنحن نشهد الآن مأساة مكتب التعذيب المعروف بمكتب التنسيق، فهذا النظام العميق الذى يبلغ عمره الأربعين مثال كاشف لتعاسة فكرة كليات القمة وتأكيد انعدام العدالة التى لا تراعى قدرات الطالب ولا ميوله ولا تأخذ فى الاعتبار الطريقة التى حصل بها البعض على مجاميع مرتفعة. وهم كليات القمة هو بداية طريق الأزمة الذى يقود إلى أزمات أكبر تجعلنا ندور كل عام فى الدائرة نفسها لتبقى النتيجة واحدة، البطالة وأمراضها. نظام التعذيب أو التنسيق بجموده وغياب إنصافه، والوهم الاجتماعى الواهى بأن هناك كليات قمة، أثبتت الفشل الذريع. نظرتنا لكليات القمة أعمت أعيننا عن كليات القمة الحقيقية وهى التعليم الفنى: الصناعى والزراعى والتكنولوجى، فهذا التعليم هو احتياج سوق العمل.. كيف لا تكون كلية الزراعة إحدى كليات القمة وكل الدراسات تؤكد أن العقدين المقبلين سيشهدان طلباً متزايداً على تخصصات الزراعة، ووسط توقعات عالية بمزيد من الدعم لذلك التخصص على مستوى العالم، بالذات فى تخصصات الطب والهندسة، لمواجهة الأزمات الغذائية واستصلاح الأراضى، بالإضافة إلى المشاريع الزراعية الضخمة التى تهدف إلى إنتاج الوقود الحيوى من نباتات زراعية، وهو اتجاه عالمى جديد يتنامى بشكل كبير. لا بد أن تكون هناك إرادة سياسية لتغيير منظومة التعليم وتغيير أسماء المعاهد الفنية إلى كليات لكسر النظرة المتدنية اجتماعياً لفكرة اسم المعاهد. التعليم الفنى هو الحل، ولا بد أن يبدأ فى المرحلة الإعدادية، وهو كفيل بتخريج شباب مؤهل للعمل والكسب، وجودة هذا التعليم ستضمن ارتفاع المستوى المهنى للمصانع وللمنتج المصرى ولمستوى جميع الفنيين ممن يقومون بجميع الأعمال سواء كانوا كأفراد أو كشركات. هذا النوع من التعليم إذا طُبِّق بجودة وبمستوى عالٍ، فسيجعل الشاب قادراً على بدء حياته مبكراً والعمل حتى قبل التخرج، وفى حالة الخروج إلى مجتمعات جديدة وزيادة الرقعة السكانية ووجود ظهير وامتداد للمحافظات، فهذه المشروعات قائمة على المهارات والمهن الفنية. لا بد من نقل التجارب المتميزة فى العالم، فالتعليم الفنى فى أغلب الدول المتحضرة قائم على المشاركة بين الحكومات والقطاع الخاص، فى أمريكا مثلاً كل الشركات الصناعية الكبرى لديها معاهد متخصصة فى المجالات التى تعمل فيها. لا بد أن تهتم الدولة بخلق هذا النوع من التعليم بشكل علمى، وتعمل على توزيع هذه الكليات ونوعيتها، بحيث تكون مرتبطة بطبيعة كل محافظة وثرواتها ومواردها. هناك دراسة أكثر من رائعة نشرت مؤخراً أجراها خبراء فى التربية بجامعة عين شمس لا بد أن تعمل بها الدولة إذا أرادت تغييراً وإصلاحاً وتقدماً، هذه الدراسة اقتراحات لوضع معايير لتنسيق القبول بالجامعات تضمن العدالة المبصرة لا العدالة العمياء، وتضع الطالب المناسب فى مكانه المناسب بما يحقق الجودة ومتطلبات المنافسة فى سوق العمل. الدراسة رصدت الثقافة الراهنة التى تعيش فى وهم الوجاهة الاجتماعية، وأكدت أنها تعصف بالقدرات والمهارات الحقيقية لأجيال بأكملها، بوضعها فى مسارات تعليمية لا تتناسب مع قدراتها وملكاتها الحقيقية بما يحدث التنمية البشرية الحقيقية. الدولة عليها الآن التفكير والتنفيذ فى تغيير المنظومة وفى تصدير ثقافة التعليم الفنى وأهميتها، وفى تغيير ثقافة الوهم حتى لا نبقى نعيش فى تشتيت يجعل مجال الرؤية المستقبلية ضبابية، وحتى لا يبقى نظام التعليم بعيداً عن الإبداع، وحتى لا تبقى كلية مثل الزراعة التى هى المستقبل فى قاع مجموع الثانوية العامة.. وإذا بقينا فى هذه المنظومة وبهذه الثقافة فمن قاع إلى قاع.