الدستور.. الدستور.. الدستور. تكرار الكلمة للفت الانتباه إلى أهمية هذه الوثيقة التى تقوم بكتابتها الجمعية التأسيسية، والتى أقول إنها لا بد أن تنجز فى أسرع وقت بما لا ينال من حسن صياغته. الوقت عنصر حاسم لأن مع غياب الدستور تغيب مؤسسات الدولة المنتخبة عن القيام بمهامها، وتغيب المؤسسات والهيئات المستقلة التى سينشئها الدستور الجديد عن القيام بمهامها. هذه ملاحظة أولى. الملاحظة الثانية: أرجو أن نمتنع عن «دسترة» كل قضايانا؛ بمعنى ألا نقحم الدستور فى القضايا التى من الأفضل أن تترك للمشرع (مجلسى النواب والشيوخ)، وإلا سنظل نكتب هذا الدستور لعدة عقود قادمة لأن واضعى الدستور الذين يضعون فى الدستور مواد الأولى بها أن تكون فى القانون مثل ناظر المدرسة الذى يقوم بمهام التدريس نيابة عن المدرسين ويقوم بالمذاكرة نيابة عن الطلاب. مواد الدستور لا بد أن تظل عامة وتعبر عن التوجه العام للدولة وليست مرتبطة بالقضايا التفصيلية التى من الأولى أن تكون فى القوانين ومن بعدها اللوائح. الملاحظة الثالثة: أرجو أن نمتنع عن «الأسلمة المصطنعة» لمواد الدستور على نحو يؤسس لدولة من الكهانة الدينية بتغيير المادة الثانية من الدستور أو إضافة مواد أخرى تجعل للأزهر مرجعية دينية ما.. لماذا؟ أولا: المادة الثانية بصيغتها الحالية ليست مانعة من أن يقوم المشرع بتعديل القوانين على النحو الذى يتفق مع شرع الله. ثانيا إعطاء الأزهر الشريف مهمة تشريعية باعتباره المرجعية النهائية (أو الرسمية) فى تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية سيجعل الأزهر نفسه ساحة للصراع السياسى وتكون انتخابات هيئة كبار العلماء واختيار شيخ الأزهر مسألة خاضعة لاعتبارات بعيدة عن الورع الشخصى والكفاءة الدينية لعلماء الدين. بهذا المنطق فإننا قد نفسد الأزهر بتسييسه فى حين أن الهدف الأصلى كان توظيف الأزهر لضمان أخلاقية وشرعية العملية التشريعية. الملاحظة الرابعة: قلت من قبل إنه من الممكن التراضى على دستور مؤقت انتقالى أو مرحلى ليصبح هو دستور مصر غير الدائم. وبعد فترة من الزمن (ولتكن 10 سنوات أو أقل) يتم تشكيل جمعية تأسيسية جديدة سواء بالانتخاب المباشر أو بنسبة منتخبة من مجلس الشعب ونسبة ضئيلة معينة من رئيس الدولة على أن تكون ممثلة لكل فئات وطوائف وشرائح المجتمع، ويكون هذا الكلام منصوصا عليه صراحة فى الدستور المؤقت. ووظيفة هذه الجمعية الجديدة أن تعد دستورا دائما لمصر. هذه الملاحظة أنا أقترحها لأننى أعتقد أن هناك من الخلافات بين أعضاء الجمعية بما لا يمكن حله إلا بعد شهور طويلة (وقد لا يمكن حلها أبدا)، وليتضمن الدستور الجديد كل ما هو موضع اتفاق وتراض، وما دون ذلك يستمر على ما كان عليه فى دستور 1971. كتابة دستور دائم لمصر فى هذه الفترة من الريبة والاستقطاب والإقصاء والترصد ليس مفيدا، والتأخر فى كتابة الدستور ليس مفيدا أيضا، وغياب المؤسسة التشريعية انتظارا للدستور الجديد وجمع الرئيس للسلطات التشريعية مع التنفيذية ليس مفيدا كذلك. الملاحظة الخامسة: إن فشل المصريين فى أن يتوافقوا على دستور جديد هو أكبر حجة سيستخدمها أنصار النظام السابق فى التأكيد على أنهم كانوا أكثر معرفة بهذا الشعب وبعدم نضج قواه السياسية. إن تركيبة الجمعية التأسيسية قبل الانسحابات كانت تتكون من (17 عضوا سلفيا، 34 إخوانيا، 35 من الشخصيات غير المحسوبة على التيار المحافظ دينيا الإسلامية، 14 لتمثيل المؤسسات السياسية). التوافق ليس مستحيلا. لذا رحمة بالأحياء وترحماً على الشهداء، أرجو ألا تتحول الجمعية التأسيسية إلى ساحة للصراع أو مسرح للمزايدات، وإنما أن نعلى الصالح العام على كل ما دونه. دمتم بخير.