تزوجت فلسطينية، ومن أين؟.. من «غزة»، أكبر «تجمع دموى» فى فلسطين: كان ذلك فى عام 1993، وكان القلب الذى أحب جمال عبدالناصر، وآمن بحلمه «القومى»، وصدق شعار «سنحارب إسرائيل ومن يقف وراء إسرائيل».. لا يزال مفعماً ب«القضية» من دون أن يقف ليسأل من الذى «يقاوم»: «عرفات» أم جورج حبش أم أحمد ياسين؟ كانت فلسطين قد أصبحت «معنى» فى بطون شعرائها، وكانت المقاومة تخبئ رصاصها وجثث أبطالها فى قصائد محمود درويش. كانت الشوارع فى مصر تقرأ القصيدة فتلتئم وتزدحم وتنتفض وترفع صور الشهداء، ثم تتفرق فى الحوارى والأزقة، وتنام على دموعها وحسرتها وخيبة أملها بعد أن ضاق المدى وانحسر ليصبح طاولة مفاوضات فى «أوسلو»... هكذا لم يعد متبقياً لنا سوى أن نعزى أنفسنا بآية من كتاب الشعر: «من دمنا إلى دمنا حدود الأرض»!.. كانت الشوارع فى مصر تلعن «السلام» الذى يموت الفلسطينيون تحت رايته، وكلما ماتوا وزهد ثمنهم تآكلت القضية وطرح السلام جثثاً لأنبياء جدد... هكذا لم يبقَ لنا سوى أن نعزى أنفسنا بتلك الآية الكريمة: «وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً». كنا نتبرع من لحم أكتافنا لندفع للشهداء تكاليف عبورهم إلى الجنة، ونشد وتراً فى غنائنا لنؤانسهم، ونجمع أشلاءهم على قمصاننا، ونقول لهم ونحن نحرق عَلَم قاتليهم: «هذا والله كل ما لدينا». تزوجت «القضية» بكل اغترابها وشجنها وسخطها على الجميع: شعوباً وأنظمة. لم أكن معنياً بما إذا كانت (القضية) جميلة كبرتقال يافا أم قبيحة كحياة المخيم. طويلة كانتظار الموت فى غير أوانه أم قصيرة كالمسافة بين الجسم والقذيفة. غنية كالأرض التى أنبتتها أم فقيرة كجوف المؤامرة. عنيفة كبحور الشعر أم هادئة كعبور الأنبياء!. لم أكن معنياً بأى من ذلك.. كنت فقط أسدد حصتى من حق فلسطين، وكنت سعيداً: الآن.. أصبح ل«القضية» وطن. قبل ذلك بعشر سنوات، أى فى عام 1983، ذهبت إلى مطرب المقاومة عدلى فخرى -رحمه الله- فى بيته فى شبرا لأحاوره بعد عودته من لبنان، حيث حُوصر مع المقاومة الفلسطينية عام 1982!. حكى لى «عدلى» أن أحد عناصر المقاومة أصر على الاحتفال بعيد ميلاد ابنته -وكانت تسمى «بيسان»- فى مخبأ تحت الأرض، بينما النار مشتعلة فوق رؤوسهم. غنَّى «عدلى» ل«بيسان»، وكان اليوم حافلاً -كما قال لى- بالحياة والموت: العود فى الحضن وفلسطين فى القلب، أما «بيسان» فكانت تشبه «القضية».. هى الكائن الوحيد الذى يشبه محنته! أعجبتنى الحكاية فحفظت الاسم وتمنيتها، وبعد عشر سنوات تزوجت فلسطينية واتفقت معها على أن ننجب بنتاً لنسميها «بيسان»، فاندهشت وسألتنى: «إشمعنى؟».. فقلت متأسياً: «لا أعرف!»، وجاءت «بيسان» على غير ما تمنيت: ليس فيها من «القضية» سوى ذلك الجذر البعيد الممتد فى وادٍ على حدود الأردن، التهمته إسرائيل وطمرت زيتونه وبرتقاله، وأقامت على أنقاضه مستوطنة. وفى عام 2007 -وكانت «بيسان» قد أصبحت فى الثالثة عشرة من عمرها- شنت إسرائيل عدوانها على جنوبلبنان، ووصلت صواريخ السيد حسن نصر الله إلى ما كان يسمى «وادى بيسان». وبينما كانت الشوارع فى مصر تهلل وترفع صور «زعيم العرب الجديد»، كنت أسأل نفسى: لماذا سميتها «بيسان»؟. مرة أقول: لكيلا أنسى وجيعتنا، وأخرى أقول إن «بيسان» قبضة من فلسطين التى ضعنا بضياعها، وثالثة أقول: هى أغنية لفيروز، وفى الرابعة أبلع سكينى فى بطنى وأسكت. وكنت ساكتاً منذ 1967 إلى حد الموت. وفجأة سألتنى «بيسان» وهى تضحك: ألم تقل لى إن حسن نصر الله مسلم؟. قلت: نعم. قالت: لماذا يضربنى إذن؟. قلت: هو لا يضربك.. بل يضرب إسرائيل. قالت: ولماذا سميتمونى باسم بلد فى إسرائيل؟ قلت: هذه أصلاً فلسطين.. فلسطين التى ضاعت.. (وقلت متمتماً: ضاعت إلى الأبد!). كثيراً ما أسأل نفسى: من الذى أضاع فلسطين.. نحن أم الفلسطينيون أنفسهم؟. لم أصدق يوماً أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم فى الخفاء. لم أصدق أن يتاجر أحدهم بدماء شهدائهم. لم أصدق أن تنبت أرض فلسطين شياطين.. وهى التى خصها الله بأنبيائه، وخصها كل نبى بمقام. لم أصدق أن يأتى على الفلسطينيين يوم، يدير فيه نفر من أبنائها ظهورهم لإسرائيل ليضربوا مصر ويقتلوا جنودها وضباطها. لم أصدق.. حتى جاءت «حماس»! يعز علىّ أن أختصر فلسطين فى هذه العصابة الإرهابية، ويعز علىّ أن تؤخذ فلسطين بخيانة حماس ل«القضية»، ويُقطع لسانى إذا نطق بإساءة إلى دماء شهدائها.. حتى إذا كانوا من الضالين، المخدوعين فى «حماس». لكننى ألتمس العذر لكل مصرى شط أو غضب أو شم رائحة الدم الفلسطينى وقال فى سره: «اللهم لا شماتة». لقد عشنا أياماً سوداء، اكتشفنا فيها أن «حماس» ليست سوى نطفة نجسة من «الإخوان»، وأن ما لم تستطع إسرائيل أن تضيعه من فلسطين ستضيعه حماس بكفاءة تحسد عليها. اكتشفنا أن حماس هى دم الفلسطينيين الفاسد، تماماً مثل «إخوانهم» فى مصر، لكن مصر أخرجت الإخوان من جسدها كما يخرج الدم الفاسد ب«الحجامة». وإذا كانت حماس قد آذت مصر فى أعز ما لديها.. فإن مصر كبيرة، وعاقلة، وحق فلسطين فى عنقها إلى يوم القيامة. تقول «القضية»: ماذا فعلتم لنا؟. أنتم تعيشون ب«موتنا»، وتبنون أمجادكم على جثث شهدائنا، وتستكثرون علينا أن «نقاوم» بحجة أنكم تكرهون حماس. ما لها حماس؟.. أليست أفضل من أن نعيش عمرنا نفاوض؟. فأقول مندهشاً: حماس تخونكم وتتاجر بدماء شهدائكم.. فاحذروا مكرها. ثوروا عليها أو موتوا، فالموت ليس جديداً ولا غريباً عليكم. فتقول بعناد: دعونا نقاوم، ونحن أدرى ب«حماسنا»!