افتكروا كلامي.. خالد أبو بكر: لا حل لأي معضلة بالشرق الأوسط بدون مصر    «صحة البرلمان» تكشف الهدف من قانون المنشآت الصحية    سعر سبيكة الذهب بعد تثبيت الفائدة.. اعرف بكام    مياه الشرب بالجيزة.. كسر مفاجىء بمحبس مياه قطر 600 مم بمنطقة كعابيش بفيصل    يمن الحماقي: أتمنى ألا أرى تعويما آخرا للجنيه المصري    نداء عاجل من غرفة شركات السياحة لحاملي تأشيرات الزيارة بالسعودية    أسعار الدواجن البيضاء في المزرعة والأسواق اليوم الجمعة 24-5-2024    أوقاف القليوبية: توزيع 10 أطنان لحوم وسلع على الأسر الأولى بالرعاية    الجيش الإيراني يعلن النتائج الأولية للتحقيق في حادثة مروحية رئيسي    حزب الله اللبناني يعلن استهدف جنود إسرائيليين عند مثلث السروات مقابل بلدة يارون بالصواريخ    قرار يوسع العزلة الدولية.. ماذا وراء تصنيف الحكومة الأسترالية لميليشيات الحوثي كمنظمة إرهابية؟    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: الحصول على العضوية الكاملة تتوقف على الفيتو الأمريكي    هيثم عرابي يكشف تعليمات طلعت يوسف للاعبي فيوتشر قبل مواجهة الزمالك    "قمة اليد والدوري المصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    منتخب مصر يخسر من المغرب في ربع نهائي بطولة إفريقيا للساق الواحدة    خالد جلال: جوميز كان يعرف من أين تؤكل الكتف    إكرامي يكشف سلاح الأهلي للفوز على الترجي ويوجه رسالة للشناوي    "فوز الهلال وتعادل النصر".. نتائج مباريات أمس بالدوري السعودي للمحترفين    إصابة 5 أشخاص في انقلاب سيارة ربع نقل بصحراوي المنيا    إصابة فتاة إثر تناولها مادة سامة بقنا    خبطة في مقتل.. تفاصيل ضبط ترسانة من الأسلحة والمخدرات بمطروح    موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية بالقليوبية    الأرصاد تتوقع تحسن الطقس وكسر الموجة الحارة    نقابة المهن الموسيقية تعزي مدحت صالح في وفاة شقيقه    حظك اليوم برج الحوت الجمعة 24-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. فرصة للتألق    حظك اليوم برج الجدي الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حظك اليوم برج القوس الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    وفاة شقيق الفنان مدحت صالح    أسماء جلال أنيقة وياسمين صبري بفستان عصري.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حدث بالفن| نجاة فنانة من حادث سير وهيفاء وهبي تتصدر "التريند" بسبب التجاعيد    لمستخدمي الآيفون.. 6 نصائح للحفاظ على الهواتف والبطاريات في ظل الموجة الحارة    شوبير يُعلن موقف عبد المنعم وهاني من المشاركة أمام الترجي    عمرو أنور يعلن رحيله عن طنطا ويقترب من تدريب المصرية للاتصالات    شهادات سيدات ل«المصرى اليوم» تحكى تجربة استخدام أوبر : «بنعيش أوقات من الرعب»    الأحزاب السياسية: أكاذيب شبكة CNN حول مصر تتعمد تضليل الرأي العام.. تقرير    مأساة غزة.. إدارة مستشفى شهداء الأقصى تحذر من كارثة خلال ساعات وتقدم طلبا لتفاديها    5 شهداء وعدد من الجرحى في قصف شقة سكنية وسط حي الدرج بمدينة غزة    طريقة الاستعلام عن معاشات شهر يونيو.. أماكن الصرف وحقيقة الزيادة    عاجل.. الموت يفجع الفنان مدحت صالح في وفاة شقيقه    «فيها جهاز تكييف رباني».. أستاذ أمراض صدرية يكشف مفاجأة عن أنف الإنسان (فيديو)    انتهاء فعاليات الدورة التدريبية على أعمال طب الاسرة    جيش الاحتلال يتصدى لطائرتين مسيرتين فوق إيلات    تحقيقات موسعة بواقعة ضبط أكبر شحنة كوكايين في 2024 ببورسعيد    انطلاق المؤتمر السنوي ل «طب القناة» في دورته ال 15    لجنة سكرتارية الهجرة باتحاد نقابات عمال مصر تناقش ملفات مهمة    محمد نور: خطة مجابهة التضليل تعتمد على 3 محاور    الفريق أول محمد زكى: قادرون على مجابهة أى تحديات تفرض علينا    رئيس الوزراء يناقش سبل دعم وتطوير خدمات الصحفيين    محافظ بورسعيد يشيد بجهد كنترول امتحانات الشهادة الإعدادية    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال    بالفيديو.. خالد الجندي: عقد مؤتمر عن السنة يُفوت الفرصة على المزايدين    قبل قصد بيت الله الحرام| قاعود: الإقلاع عن الذنوب ورد المظالم من أهم المستحبات    وزارة الصحة تؤكد: المرأة الحامل أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرى    محافظ كفر الشيخ يتفقد السوق الدائم بغرب العاصمة    ما حكم سقوط الشعر خلال تمشيطه أثناء الحج؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    عفو السيسي عن عقوبة "البحيري" .. هل عطّل الأزهر عن فتوى جديدة عن "مركز تكوين"    رئيس الوزراء يتابع موقف تنفيذ المرحلة الثانية من منظومة التأمين الصحي الشامل    رجل متزوج يحب سيدة آخري متزوجة.. وأمين الفتوى ينصح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غياب خمس سنوات وحضور متواصل
محمود درويش .. نصوص اللحظة
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 08 - 2013

هل يعرف من يهتف علي جثه ضحيته -اخيه : الله اكبر انه كافر اذ يري الله علي صورته هو : اضغر من كائن بشري سوي التكوين ؟هذا كتب محمود درويش في نصه البديع انت منذ الان غيرك عقب وصول حماس الي السلطهفي غزهكان كل شئ قد تغير . كما يري الشاعر لم تعد القضيه هي فلسطين الدوله في مواجهة الاحتلال.. بقدر ماكانت صراع علي السلطة .. لماذا ؟
مادمنا لا نعرف الفرق بين الجامع والجامعه .لانهما من جذر لغوي واحد . فما حاجتنا للدولة .. مادامت هي والايام الي مصير واحد ؟ كما كتب في نصه
نبؤات صاحب اثر الفراشه قبل رحيله تحققت ولكن الشعوب تقاوم هذا الارهاب الاسود
خمس سنوات علي غياب محمود درويش ..تغير العالم كثيرآ ..ولكن قصيدته لا تزال في المقدمه.ليس فقط لانها قصيده مقاومه يمكن استعارتها وقت الحرب والثورات و الثورات . لكن لان درويش بالاساس صاحب اقتراحات جماليه وفنيه لا يمكن تجاوزها .. علي الاقل حتي الان .هذا الملف .بعض من محمود درويش في ذكراه. نصوص داله علي اللحظه ..نصوصم مجهوله من البدايات . وبعض ما تيسر من شهادات.
»عن أيامه القاهرية«
مغامرة ثقافية كبري
لم تتكشف بعد أسرار إقامة محمود درويش في القاهرة. هي أسرار ربما يعرف معظمها الأستاذ محمدحسنين هيكل، ووزير الإعلام الأسبق محمد فائق ..الذي كان مشرفا علي عملية تغيير اتجاه محمود دوريش من موسكو إلي »القاهرة« بدلا من عودته إلي »فلسطين«..
لكن المؤكد أن القاهرة شهدت »ولادته الثانية« حسب تعبيره ..فهي »المدينة الأكبر والأعظم التي رأيتها لأول مرة ، أول مدينة تتكلم العربية وأسماء شوارعها بالعربية .. وهذا ما فتنني بها« كما قال في حوار معه. لم يكن درويش عندما جاء القاهرة للاقامة شاعرا مجهولا أو مبتدئا .. كان
»نجما« في سماء القصيدة الفلسطينية، احتضنه حتي قبل حضوره الناقد أحمد بهاء الدين وقدمه للقاريء المصري عبر عدة مقالات وملفات وقصائد في مجلات المصور والهلال، ونشر عنه رجاء النقاش كتابا نقديا هاما »درويش شاعر المقاومة«..الذي صدر العام 1969، وبعد ذلك باتت الحكاية معروفة: حين وصل درويش إلي القاهرة لم يكن شاعراً مجهولاً. كان ذلك في فبراير 1971 بعد رحيل عبد الناصر، علماً أنّ الكاتب محمد حسنين هيكل يصرّ علي أن درويش وعبد الناصر التقيا شخصيّاً. وهو أمر لم ينفه شقيقه أحمد، الذي أكّد أن »موسكو شهدت لقاءً بين الشاعر والزعيم«. وبالفعل، زار عبد الناصر العاصمة الروسية للعلاج في الفترة التي كان محمود مقيماً فيها. في القاهرة التقي درويش الصحافي عبد الملك خليل، وانتقل مباشرةً إلي»افندق شبرد« للإقامة، ثم إلي»إذاعة صوت العرب«حيث صدر قرار بتعيينه، وطلب منه مدير صوت العرب في ذلك الوقت محمد عروق أن يسافر مع المذيع عبد الوهاب قتاية إلي الأقصر وأسوان لأيام. وبالفعل سافر درويش لمشاهدة الآثار المصرية. وحكي قتاية عن هذه الرحلة أنّ أكثر ما أسعد درويش أنّ »محافظ أسوان رتب لنا زيارة إلي مدرسة نائية في أطراف المحافظة وزرناها وذهبنا إلي أحد الفصول حيث راح الأطفال ينشدون إحدي قصائد درويش بألحان مصرية، فإذا بالدموع تكرّ علي وجنتي الشاعر«. ما إن وصل درويش من تلك الرحلة حتي أقيم له مؤتمر صحافي أعلن خلاله أنّه برحيله إلي القاهرة، لم يرحل عن »لمعركة«، وأنه غيّر »موقعه« ولم يغيّر »موقفه«، وأن الخطوة التي اتخذها جاءت »ليضع حقيقة ما يعانيه أهله في فلسطين أمام الرأي العام«. ثم اصطحبه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وصافيناز كاظم في رحلة عبر مدينة القاهرة التاريخية، سجّلا وقائعها في مجلة »المصور« التي عُيِّن فيها لشهور قبل أن يطلب منه محمد حسنين هيكل الانتقال إلي »الأهرام«. هناك، بدأ درويش ينشر قصائده ومقالاته (لم تجمع حتي الآن في كتاب).
وهناك وجد نفسه في غرفة واحدة مع نجيب محفوظ، ويوسف إدريس وبنت الشاطئ : كانت مكاتبنا في غرفة واحدة، القارئ الذي كنته وجد نفسه في حضرة كتابه المفضلين، وهذه التجربة »أغني تجربة ثقافية في حياتي، وهذا كان يعني الكثير بالنسبة لي ..سبحت في مغامرة ثقافية كبري« كما قال في واحد من حواراته. في غرفة الأهرام في الطابق السادس تعلم محمود كثيرا، راقب زميليه..نجيب محفوظ الذي كان لديه
»عبقرية النمل« لا يأكل أو يشرب أو يكتب إلا في مواعيد ثابتة، علي عكس يوسف إدريس الفنان المقب علي الحياة بطريقة عشوائية، نظامه »الفوضي المطلقة«..وفي بيت إدريس تعرف درويش علي فناني مصر، وكان من بينهم عبد الحليم حافظ »كان لطيفا دمثا وكريما«..كما تعرف علي محمد عبد الوهاب ... القادر علي أن »يغني الكلام العادي«...
في ضوء القاهرة كان يمكن أن يصاب درويش بالغرور لولا:»حصانة داخلية ضد الضوء«...»لولا التماسك الداخلي ولولا موهبة التمييز بين الأشياءوعدم الانخداع بالضوء«.
لم يمكث درويش طويلاً في القاهرة. غادرها بعدما تغيرت الأحوال وقام السادات بانقلابه في 15 مايو ضد مشروع عبدالناصر، أو ما سمّاه »ثورة التصحيح«، ليجد الشاعر أن أصدقاءه أصبحوا في السجون. هكذا انتقل للاستقرار في بيروت، حيث ستغتني تجربته الشعريّة، وتعيش قصيدته تحوّلاتها الحاسمة الأولي. هنا ننشر الكلمة التي ألقاها محمود درويش لدي وصوله للقاهرة في المؤتمر الصحفي الذي عقده له الوزير محمد فائق..وهي تنشر لأول مرة.
ابتعد ..لأقترب
أريد أن أعلن منذ البداية أني أعتبر مسألة وجودي الآن في القاهرة مسألة شخصية أتحمل وحدي مسئولية اختيارها، وسأبذل منتهي جهدي للحيلولة دون تحويلها إلي موضوع للمناقشة والأخذ والرد، وكان من الممكن وربما من الأفضل حصر المسألة كلها في حدود ضيقة لولا أن الظروف التي خلقتني والقضية التي قدمتني للناس قد ربطت اسمي بقضية عامة، وهذه القضية العامة هي العنصر الأساسي الذي دفعني لاختيار موقع جديد في الجبهة التي احارب فيها، ومن هنا، لم يعد من حقي أن أتصرف كمسافر أو سائح، ولهذا السبب أشعر بأني مطالب أمام نفسي وأمام الرأي العام بتقديم بعض التحديدات العامة لأتابع بعدها طريقي: أنني ألح كثيرا علي أن يكون مفهوما لجميع الناس أن الخطوة الخطرة التي أتخذتها نابعة من اعتبارات خدمة القضية من مواقع تبدو لي أكثر انطلاقا وحرية وقد تمنحني مزيدا من القدرة علي التعبير والعمل أكثر مما كنت قادرا علي عمله في بلادي.. إنني قادم من منطقة الحصار والأسر إلي منطقة العمل. ولا يساورني أي شك في أن الرأي العام العربي ربما العالمي أيضا- قد أصبح أكثر وعيا بواقع الاضطهاد الاسرائيلي للمواطنين العرب في بلادهم.وما جئت إلي هنا لادانة هذا الواقع، ولذلك فإني في حل من عرض لائحة الاتهام الخطيرة. ولكن ما يهمنا هو أن هؤلاء المواطنين يمارسون البطولة ممارسة يومية بتمسكهم بحق الانتماء الوطني، وبرفضهم المسئول الانضمام إلي الغربة خارج الوطن. لقد آثروا الاغتراب وتحمل القهر داخل الوطن..ولقد كنت شخصيا ولا أزال أحب الذين اعطوا شبابهم وطاقتهم لهذا الصمود، ومازلت أعتبر نفسي واحدا من هؤلاء المواطنين الشجعان الذين يكافحون وظهورهم إلي الحائط ويستمدون الطاقة والأمل من معركة التحرر والبناء والتقدم التي تخوضها شعوبهم خارج أسوار إسرائيل. وأقول لكم- أيها الأصدقاء- بصراحة تامة أنني لاقيت من الحزن قدرا لا يجوز الحديث عنه هنا عندما قررت مرغما- الانفصال الجغرافي عن أولئك المواطنين. ولكني أحاول أن أجد عذري في أنني أصبحت مليئا بالاحساس بأنني اقترب يوما بعد يوم من نقطة العجز عن القيام بواجبي كمواطن أولا وكشاعر ثانيا بسبب ظروف الكبت الذي اتعرض له.
لقد أصبحت مشلول الحركة تماما ومشلول الحرية في التعبير ، ولقمة سهلة في فك العنصرية الإسرائيلية وأصبحت مهددا بخطر التعلق علي مطاط الصيغ الدبلوماسية لكي أنجو من القانون. إنني لا أشكو ولكنني أحاول القول إن شعرة معاوية بيني وبين القانون الإسرائليي قد انقطعت وأن طاقتي علي الاحتيال والتجاوز قد نفدت، خاصة أنني لم أعد منتميا إلي شعب يطلب الرحمة ويتسول الصدقات، ولكنني أنتمي إلي شعب يقاتل.
من أنا؟
هل أنا مواطن إسرائيلي بمحض اختياري، أم أنا مواطن عربي فلسطيني.. وإذا كنت كذلك ففي أي صف أقف. إن قلوبنا واضحة الدقات ولكنني مطالب بتحويل مشاعري إلي كلمات..ومن هنا، أصبح تناقض الانتماءين أشد إلحاحا وتعذيبا. لم يعد ممكنا أن أجاور بين هذين الانتماءين بسبب اصرار الحكم الإسرائيلي علي السير في المغامرة حتي النهاية وحرق أي جسر للعودة. إني أتمزق مرتين: مرة علي شعبي..ومرة علي المواطنين اليهود الذين يقودهم حكامهم إلي كارثة.
أيها الأصدقاء ..
يصعب هنا وضع الفواصل بين الأدب والسياسة وأنا كاتب لا يتفرج علي الحياة بل يلتحم فيها. والوطن عندي ليس حقيبة ولكنه أيضا ليس جبلا وسهلا.. إن وطني قضية، يجب أن ندافع عنها من أي موقع، ولست أول مواطن وشاعر يبتعد عن بلاده ليقترب منها. إنني أشعر الآن كما لم أشعر من قبل بنبض التربة التي انبتتني وأشعر بمزيد من الأمل المبرر والمشروع ، لأنني أعيش وأعمل مع شعبي بالمفهوم الأوسع، لن أدافع عن الخاص من موقع العام.
إن أهمية ما اكتبه- إذا كانت له أهمية- لا تنبغي أن تكون مستمدة من المكان الذي أكتب منه، بل من القضية التي اعيشها أينما كنت.
ولا أبيح لنفسي أن اتكلم من موقع الدفاع عن النفس، وأني أتحمل كامل المسئولية عن موقفي وقضيتي، ورحيلي الذي أرجو أن يكون مؤقتا عن وطني ليس تغييرا لموقف أو قضية ولكنه تغيير لموقع، واختيار موقع راسخ وطيد حمله التاريخ مسئولية تاريخية، وهي مستقبل منطقة الشرق الأوسط كلها. هذا الموقع هو القاهرة التي أصبحت- بحكم التطور التاريخي والظروف الموضوعية- المصدر الأساسي للحركة في المنطقة.
وأنا مواطن فلسطيني، لقد لقي شعبي من العذاب والقهر الجسدي والمعنوي مالايوصف .. إنني لا أدير أسطوانة، ولكن ملحمة اقتلاع شعب كامل وقذفه الي التية ليست مسألة فلسطينية. إنها خنجر في كل ضمير إنساني. ولقد كنت أتمزق كل يوم وأنا اري منازل أهلي يسكنها غرباء وأسمع منها أغاني انتصار الفاتحين الذين يلاحقون الضحية حتي منفاها ليقضوا علي آثارها. لقد رأيت كيف تتغير أسماء الشوارع والقري والمدن، ولقد رأيت كيف يحرث الناس في أجساد الآخرين ويستخرجون القمح والتفاح، ولقد رأيت كيف يترجم الشجر والحجر والقمر، ولقد رايت كيف يزيف التاريخ، وكيف تجري عملية التنفس من رئات الآخرين. واكثر من ذلك رأيت كيف تتم عملية مطالبة الضحية بالاعتراف بأنها القاتل. مازالت إسرائيل حتي الآن، تقدم شعبي إلي العالم بزي القاتل وتدعي أنها الضحية. ولم يكن شعبي يحسن إلا الاستجداء والتسول، ولا يقدم نفسه إلا ببطاقات الاغاثة.. إن الوقوف علي باب المحكمة الدولية حق والقرع علي أجراس ضمير العالم حق والبكاء علي ذكري وطن مغتصب حق. ولكن الحق ليس حقا إذا كان صاحبه ضعيفا. وهكذا الدنيا.. لقد تغيرت الآن صورة شعبي ولم يعد يقدم نفسه ببطاقة الاغاثة، بل ببطاقة الاستشهاد. لقد وجد شعبي طريقة الي الحياة عندما اجتاز سرداب الموت وهذه هي المقاومة وهذا هو الحل ... فأين أقف وأنا مواطن عربي.. وقضيتي الخاصة جزء لا يتجزأ من القضية العامة للشعوب العربية، ولا مستقبل لقضيتي اذا لم نعرف مكانها في هذا التيار المعادي للتخلف والامبريالية والصهيونية والطامح الي التقدم الاجتماعي والاستقلال والسيادة القومية والوحدة والاشتراكية وإذا سمحتم لي بالتحدث عن مشاعري الخاصة، اقول لكم انني أشعر بالانفعال الشديد والتاثر البالغ بسبب احساسي بالعلاقة المباشرة مع ابناء شعبي الذين كنت بعيدا عنهم أكثر من عشرين سنة. هذه أول مرة أزور فيها بلدا عربيا منذ طفولتي. إنني أشعر أن كتفي تتسعان ورئتي تكبران، وألمس أسبابا مادية ومعنوية للتفاؤل العلمي والوجداني.
وأنا مواطن عالمي ..وقضيتي جزء من الحركة الثورية العالمية وافخر بانتمائي إلي اسرة التقدم والتحرر والاشتراكية التي تمارس تأثيرها الفعال لتغيير العالم تغييرا جذريا..اننا علي الرغم من كل القهر والكبت ننتمي إلي الجانب المضيء من وجه عصرنا، ونشعر بسعادة غامرة وبفرح لا حد له بصداقتنا المصيرية مع الاتحاد السوفيتي الذي يمارس دورا رئيسيا في الحركة الثورية العالمية ويقف في جبهة الصدام الأولي مع اعداء الإنسان ومعوقات ضرورات التقدم. ولقد عشت في الاتحاد السوفيتي طيلة العام الماضي، واشعر شخصيا بانني مدين له لأنه أعطاني كل شيء..من الخبز حتي الأمل والتفاؤل العظيم، واني واثق بأن حبي للإنسان وللمجتمع السوفيتي بما يمثله من تجربة خلاص البشرية من العذاب هو من أحد مقومات نضالي وفرحي بالحياة.
أيها الأصدقاء
من المعروف لكم تماما، انني قادم إليكم من صفوف الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي يخوض معركة سياسية مليئة بالضني والشرف وفي جو خانق من العنصرية والغطرسة الصهيونية والاعتداء الصلف علي أبسط حريات الإنسان. ومعروف لكم تماما أن هذا الحزب يضم في جبهة واحدة متلاحمة كل العناصر المناضلة من المواطنين العرب وخيرة العناصر المكافحة من المواطنين اليهود. إنه يشير إلي امكانية التعايش الحقيقي والحياة المشتركة السعيدة بين العرب واليهود ويرفع شعار مع الشعوب العربية ضد الاستعمار لا مع الاستعمار ضد الشعوب العربيةس وهو ما يحذر من الهاوية التي يقود الحكم الإسرائيلي المواطنين إليها، إذا ما استمر في تنكره لحقوق الشعب العربي الفلسطيني والاعتداء علي الأراضي في البلاد العربية وحقوقها وسيادتها. إن من واجبي أن اعلن من هنا أن رحيلي عن بلادي ليس نابعا بأي شكل من الأشكال عن رغبة في الانسلاخ عن انتمائي السياسي والفكري. ومن ناحية أخري أريد أن أعلن أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي لا يتحمل مسئولية قدومي إلي القاهرة ولا علم له بذلك وعلي هذا الأساس فمن حقه الطبيعي أن يتحفظ من هذا السلوك الفردي الذي خالفت به أبسط قواعد التنظيم،وعلي أي حال، بودي ان أرسل تحيات حارة إلي الشيوعيين العرب واليهود في إسرائيل الذين يحتلون مكانهم في الحركة الثورية العالمية، ومن هذا المكان فإنهم يشكلون حلفاء أمناء لحركة التحرر العربية.
وبعد...
اسمحوا لي أن أعبر عن عميق الشكر والامتنان إلي الجمهورية العربية المتحدة رئيسا وشعبا وحكومة وحزبا، لأنها فتحت صدؤها الواسع لي واعطتني من الحب والفرح والمل مئونة معنوية ضخمة، وأشعرتني بأنني لم أغادر وطني، وإنما انتقلت من الوطن الأصغر إلي الوطن الأكبر، إني أحدق في نهر النيل فأري أعماق الظاهرة وجوهرها واري تدفق الحياة اللامتناهي ورحلة التاريخ الصاعدة دائما. إني أحدق في نهر النيل فأسمع خرير نهر الأردن وبردي والفرات في نغم واحد متدفق علي الرغم مما يعتري الظاهرة من ركود ظاهري.
واننا علي يقين من ان نهر الحياة سيواصل المسير وأني علي ثقة من انني سأجد في موقعي الجديد، في القاهرة امكانيات واسعة لمواصلة عملي في سبيل القضية التي نعمل من اجلها جميعا. ويسعدني أن اخترت القاهرة لأنها القاعدة الأساسية لكفاح الشعوب العربية من أجل التحرر والاستقلال والتقدم الاجتماعي والمستقبل الاشتراكي والسلام. وأرجو أن يغني هذا الموقع الجديد موقفي ونضالي بمزيد من الطاقة والانطلاق لأن الاعتبار الأول والأخير لاختيار أي موقع هو خدمة القضية التي نحيا من أجلها ونموت من أجلها.
من نصوص درويش
الإرهاب الأسود
لا وقت، لا وقت، المشنقة تسبق السؤال، والرصاصة تبحث عن صدر أو ظهر، ونادراً ما يري القتيل وجه قاتله، كأنه يخرج منه علي قوس الظلال ويختفي فيه. أو كأن القتل انتحار، رياح تهب ورمل. وغالباً ما تدرك أن الأشجار العربية، المتعانقة أو المتفرقة، جنازة ثابتة وصامتة. ودائماً نعرف أن أضلاعنا مشانق. ونحمد اليوم التالي علي معجزة التكرار، ومن الهواء يأتي زوار لا نعرفهم. يأخذوننا من ذاتنا، وينصرفون، فندافع عن تهمة لم يوجهها إلينا أحد، ونتعذب في سجن لا جدران له، ومن الشوارع تتفجر أسرار لا تعنينا وتنكسر قامات لا نودعها ونادراً ما نحزن. وحين نبحث في السجون عن أسمائنا لا نجد لها أثراً ولا شبهاً، وعندما نتحري الجدران عن دمنا لا نجد غير هتافات جميلة تعدنا بصباح حتمي، يكتبها زوار الليل نيابة عن الشهداء. وتتاح لنا أحياناً فرص لمحاورة الجلادين، فنجدهم أذكياء وطيبيين، يعرفون لغتنا وأحلامنا وينحتون لنا المستقبل في الصخر. وكلما خاطبناهم بلغة عاطفية سبقونا إلي البكاء، وكلما عاتبناهم علي ظلم لحق بالأبرياء أخذونا إلي الشرفة لنري صفوف الشهداء تبايعهم، فنعتذر أو نكاد، ونفتش عن القاتل في مكان آخر، وننبش جلودنا لنلمس دمه فينزلق. وتبقي التهمة مسألة نفسية وترجأ الأسئلة إلي زمن آخر. الكل يعرف الخطر الذي يتربص بالرجاء، والكل يتفق علي أن تحول الشمس إلي احتمال يومي صار موضوعاً قابلاً للخلاف. فأين الخطأ وأين الصواب؟ والجلادون ظرفاء يحبون الأغاني وأنيقون بلا حدود. وحين يمرض الواحد منهم يؤتي إليه بجماهير حزينة لتعوده وتودعه، فيسأل مترجمه الشعبي عن اللغط فيجيب: جاء الشعب مودعاً، فيتساءل ببراءة صادقة: إلي أين يسافر الشعب؟!. هل يستطيع وزير واحد أن يبلغ الحاكم أن الشعب لا يسافر؟ لماذا تسبق المشنقة السؤال إذن؟ ولماذا يبنون لنا مزيداً من السجون إذا كنا جميعاً طلقاء؟ تنزل الأسئلة إلي الهمس فيسمعها العصفور ويشي. ولكن الوجدان يشتاق إلي محاكمة يتلو فيها المدعي العام لائحة الاتهام لننجو من هذا الكابوس، ولنستمع إلي محامي دفاع واحد بلغته القانونية القديمة التي كدنا ننساها. وكم نشتاق إلي مظاهرة واحدة، في عاصمة واحدة، نحتج فيها علي خيانة واحدة، أو نحيي فيها بطولة مضادة! وكم نحن إلي افتتاحية ساخنة تعيد إلينا ذكريات خلاف ما، وقع يوماً ما، بين حاكم ومحكوم، هل انتهت الحرب الطويلة مع العدو، الذي مازال يحتل الأوطان، لينتهي الفارق بين الليل والنهار؟ وهل يكفي أن يصدر الحاكم بياناً جباناً عن آخر الحروب، ليحل السلام بين المتخم والمحروم وبين السجين والسجان وبين الظالم والمظلوم؟ هل كانت سعادتنا بسيطة وقريبة إلي هذا الحد ولم نعرف؟ وهل نندم علي عمر ضاع أمام شعار لم يتحقق، لا لشيء إلا لأن أحد الأقزام قفز علي الشجرة وطال في الظلال! وإذا كان عمرنا قائماً علي هذا الوهم فمن أين الحاكم جاء؟ لماذا لا يسقط الساقط وحده؟ لا وقت للسؤال، ولا وقت للجواب، لأن المشنقة جاهزة، ولأن الحوار إضاعة لوقت الحاكم المشغول.. بماذا؟.. كان شعار »لا صوت يعلو فوق صوت المعركة« كابحاً للتعبير عن الحاجة إلي الخبز والحرية، لأن قيدنا كان شرطاً لحرية الوطن. فأي صوت يكبح الآن وأية معركة تعلن؟ دائماً كانت المشنقة صدي، وتتحول اليوم إلي افتتاح. لقد أعلن الحاكم الحرب علينا من الوريد إلي الوريد. وهو الذي يبشر بانهيار السلطة ويعد المشانق للاحتمالات. إنه زمن الإرهاب الأسود. إرهاب يميني ولو وقف علي يسار الضحية. إرهاب أصيل، عروبي، نابع من ذواتنا، غير مستورد. مستتر خلف حجاب رغم أنه ذكر، ويصلي خمس مرات في اليوم، إذا شئتم، تقي، أصولي، يقطع اليد الممتدة إلي الرغيف والحرف بحد السيف، وفق الشريعة. وأحيانا متمدن: يستخدم أرقي أدوات التعذيب البشري ومراقبة الأحلام علي الشاطيء. وسري: ليجعلك القاتل والقتيل في جسد واحد. وعلني: كمنشآت النفط التي تجتاح القيم، وكصحف هذه الأيام، وكشاشة التليفزيون التي لا يغادرها وجه الحاكم الذي ألغي الفكاهة.
وجاهل: يكره الكتابة والصحافة فيشتريها ويرميها في المرحاض. ومثقف: يعلن أن الحروب الوطنية والأهلية مهمة، ولا تدخل في الجوهر. وشاعر: يضع السحر والشعوذة بديلاً للمعرفة العلمية، ويحدد التناقض الرئيسي بين حنجرة الشاعر وخصر الراقصة. وديمقراطي: يعدد أسماءه ويحدد جوهره، ثم يوحد صورته حين يعم الاجتهاد العيون. وفاشي: لا يتقن المهنة فلا يبني ولا يحارب إلا الفقراء. واشتراكي: ولكن طبيعة الإنسان التي يتنازعها الخير والشر هي العائق، ولأن التناقض الرئيسي بين الإنسان والله. إنه الإرهاب الأسود. إنه الإرهاب الأسود الذي يخاف الشفق الممكن في عروق الأمة، الإرهاب الجارف الذي يعرف من هم أعداؤه من فرط ما يعرف نفسه وطريقة استيلائه علي السلطة. إنه الإرهاب الأسود الذي استسلم للغزاة بلا ثمن فخاف سؤال الشارع فجعل المشنقة تسبق السؤال. إنه الإرهاب الأسود الذي يدعونا إلي المعركة ويخذلنا في أوج المعركة لأنه لا يعادي سوانا. طالبناه بأن يعامل »العبيد« كما يعامل »طائفة اليهود« علي الأقل، فجن واتهمنا بالخلاعة، لأن لليهود أمريكا تحميهم وخطوط دفاع مشتركة. إنه الإرهاب الأسود الذي يستبق العاصفة التي تتأهب للانفجار فينا، ويعرف سر فلسطين فيجعلها سراً أو عيباً من عيوب القرية. إنه إرهاب السلطة، بميوعة صفاتها الطبقية، وبوضوح تجلياتها في تسليم الأرض، وفي تحريم النبض، وفي تعميم القبض، لها حرس، وعسس، وأدباء وشعراء محمولون علي الأوراق وعلي ناقلات الجنود، إنه الإرهاب الأسود الذي يعي أزمته فيسبق السؤال بالمشنقة ويحول الكتاب إلي كلاب، ويحول القمع إلي إرهاب، فلنعلن أننا في زمن الإرهاب، في زمن الإرهاب الأسود.
أنت منذ الآن غيرك!
هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونري دمنا علي أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقي حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!
أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب علي غيرك!
أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!
أيها الماضي! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك!
أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟
وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف.
أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوي عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!
الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة!
تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما؟
لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلي بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد!
لولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا!
أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين: إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسي!
مهما نظرتَ في عينيّ.. فلن تجد نظرتي هناك. خَطَفَتْها فضيحة!
قلبي ليس لي... ولا لأحد. لقد استقلَّ عني، دون أن يصبح حجراً.
هل يعرفُ مَنْ يهتفُ علي جثة ضحيّته - أخيه:» الله أكبر« أنه كافر
إذ يري الله علي صورته هو: أصغرَ من كائنٍ بشريٍّ سويِّ التكوين؟
أخفي السجينُ، الطامحُ إلي وراثة السجن، ابتسامةَ النصر عن
الكاميرا. لكنه لم يفلح في كبح السعادة السائلة من عينيه.
رُبَّما لأن النصّ المتعجِّل كان أَقوي من المُمثِّل.
ما حاجتنا للنرجس، ما دمنا فلسطينيين.
وما دمنا لا نعرف الفرق بين الجامع والجامعة، لأنهما من جذر لغوي
واحد، فما حاجتنا للدولة... ما دامت هي والأيام إلي مصير واحد؟
لافتة كبيرة علي باب نادٍ ليليٍّ: نرحب بالفلسطينيين العائدين من المعركة. الدخول مجاناً! وخمرتنا... لا تُسْكِر!
لا أستطيع الدفاع عن حقي في العمل، ماسحَ أحذيةٍ علي الأرصفة.
لأن من حقّ زبائني أن يعتبروني لصَّ أحذية هكذا قال لي أستاذ جامعة!
»أنا والغريب علي ابن عمِّي. وأنا وابن عمِّي علي أَخي. وأَنا وشيخي عليَّ«. هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة، في أقبية الظلام.
من يدخل الجنة أولاً؟ مَنْ مات برصاص العدو، أم مَنْ مات برصاص الأخ؟
بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك!
لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون علي طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!
سألني: هل يدافع حارس جائع عن دارٍ سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية في الريفيرا الفرنسية أو الايطالية.. لا فرق؟
قُلْتُ: لا يدافع!
وسألني: هل أنا + أنا = اثنين؟
قلت: أنت وأنت أقلُّ من واحد!
لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون.
أنت، منذ الآن، غيرك!
كلنا من خلائقه
قبل محمود درويش لم يكن هناك ما يمكن أن يدعي جديا بالأدب الفلسطيني. كانت هناك محاولات. لكنها لم تبلغ حد تشكيل هوية لذاتها. كان هناك إبراهيم طوقان، وكان هناك السكاكيني قبله، وكان غيرهما. لكنهم جميعا كانوا مجرد بدايات. وهي بدايات فلسطينية لأنها خارجة من فلسطين فقط، وليس لأنها ذات هوية خاصة هي هوية فلسطينية.
محمود هو من خلق الهوية الأدبية الفلسطينية.
لقد خلق الأدب الفلسطيني في الواقع. أوجده.
وبذا ساهم كفرد في خلق الهوية الفلسطينية الحديثة. بل إنه ما من شخص واحد أسهم في صياغة هوية شعب بكامله كما فعل محمود درويش. ويكاد المرء يقول إن ما فعله بخصوص تشكيل الهوية يوازي فعل منظمة التحرير ذاتها. وبهذا المعني فهو الوحيد الذي يمكن أن يقارن بياسر عرفات، بل وأن يتفوق عليه. لم يكن درويش صنيعة المنظمة، هو والمنظمة ولدا في وقت واحد. وسارا معا.
لم يحصل مثل هذا مع أي هوية عربية حديثة. لم يحصل أن شاعرا أسهم، بهذا القدر، في تشكيل هوية. كان هذا امتيازا خاصا بمحمود.
غير أن محمود لم يكن يكتفي أن يكون شاعرا فلسطينيا. كان هذا أقل بكثير من طموحه. كانت لغته العربية تدفع به إلي أن يرث امرأ القيس والمتنبي وأن يبتلعهما إن أمكنه.
وليس لدي من شك في أنه أسهم بما يكفي في تكوين الهوية الثقافية العربية الحديثة أيضا. هناك خلاف حول حجم دوره بهذا الخصوص. لكنه بالتأكيد يقف في الصف الأول من منتجي الثقافة العرب.
وإذا كان محمود مؤسس الهوية الأدبية الفلسطينية، فكل شاعر فلسطيني تأثر بمحمود درويش. حتي الشعراء الذين جاءوا قبله أو ماتوا قبله طالهم تأثيره. فنحن ننظر إليهم الآن في السياق الذي وضعه محمود درويش، لا خارج هذا السياق. في السياق الذي وضعنا فيه جميعا. محمود خلق إطارا وُضعوا هم كعناصر في داخله. وحين نفسرهم، فإنما نفسرهم من داخل هذا السياق.
أما الذين جاءوا بعده أو كانوا معه، فلا أحد هرب منهم من تأثيره أبدا. لا أحد. طرق التأثير اختلفت لكن التأثير كان ساحقا. وأنا واحد من الشعراء الذين أتوا بعد درويش بفترة. وكان شعري، وبوعي كامل، محاولة للابتعاد عن درويش وعن لغته واستعاراته وإيقاعاته. كل كلمة سادت في شعر درويش كانت بالنسبة لي كلمة لا يجوز لي استعمالها. لن تجد في قصائدي زيتونا ولا برتقالا ولا ياسمينا. فتلك أشجار درويش ولا يجوز لي أن أقف في ظلالها. سوف تجد عندي أشجار أرطي وأراك وأثل. لن تجد في شعري يافا ولا حيفا ولا الكرمل. تلك مدن درويش وليست مدني. هو من اخترعها. هو من جعل الكرمل كرملا، ولا يجوز لي أن أصعد كرمله. لن تجد لدي عصافير دوري ولا حساسين ولا سنونو. تلك طيور درويش لا طيوري. لن تجد عندي غزلانا ولا أيائل. فهذه طرائد درويش لا طرائدي. عندي في شعري جمال وكلاب وحمير وحش وضباع وغير ذلك.
كل كلمة شاعت في قصائد درويش كانت مثل قنبلة لا يجوز لي أن أقترب منها. فكل ما يستخدمه درويش يصير له. يختمه بختمه. وأنا لا أريد أن أستخدم كلمات ختمت بختم درويش. وحتي حين يصادف أن تجد حصانا في شعري، فهو حصان يحاول بكل طاقته، عامدا متعمدا، أن ينفي أي علاقة له بأحصنة درويش التي زرعها الغجر علي وترين.
هكذا حددتُ مساري الشعري تحت الضغط السلبي لمحمود درويش. وكلمة السلبي هنا تعني المعاكس. وهو ما يعني أنني تأثرت به من الزاوية الأخري. تأثرت به عبر الهروب من عوالمه. وهذا تأثر يوازي تأثر المشابهة والتقليد. لقد أرغمني أن أبحث عن طرق أخري مختلفة عن طريقة. لقد اكتسح الطريق كله، فكان علي أن أبتعد باحثا عن طرق أخري ومسارب أخري. لقد أرغمني علي البحث عن طرق أخري.
نموذجي الشعري كان يذهب عكس نموذجه. كان يتجنب نموذجه. ومن تضطر اضطرارا إلي معاكسته، فقد أسهم في خلقك وفي خلق نموذجك بشكل أو آخر.
لا أدري الأسباب الأعمق التي جعلتني غير قادر علي أن أكون قريبا من نموذج درويش الشعري. ربما كان مزاجي الشخصي لا يتوافق مع اللهجة التراجيدية لمحمود في قمته السبعينية. لم أكن قادرا علي الأبطال التراجيديين. لم يكن (أحمد العربي) ولا (أوديسيوس) من أقربائي. كان مزاجي أقرب إلي أناس الظل. إلي شخص يسير علي شاطئ البحر مع كلبه، لا إلي أوديسيوس جوال ومتوهج كالنار. يعني: ربما كان جذر ابتعادي عن نموذج درويش يكمن في مبناي النفسي الذي ورثته وراثة، أو علي الأقل لم أتحكم في وجوده.
في ما بعد عاند محمود نفسه، وعاكسها. أعاد صياغة ذاته وشعره تحت ضربات اليأس، وتحت ضربات الشوق. تحول شعره. سرت فيه مياه أخري، بعيدة الغور. فقد كان قادرا علي أن يتغير ويتجدد. قليلون هم الشعراء الذين يظلون قادرين علي تجديد أنفسهم عند بلوغ الستين. الستين سن موت الشعر عند الغالبية. درويش نجا من هذا القانون. في الستين صار شعره أكثر صفاء. وكل هذا عائد إلي شكه ويقظته. كان والخوف من الهذر والتكرار يسيطر عليه. وكان مصمما علي أن يتجنب هذا المصير. لذا كان يقرأ ويقرأ. يقرأ شعر الشباب وشعر الكهول. شعر المعروفين وشعر المجهولين. يقرأ المترجم وغير المترجم. كان يرسل مجساته إلي كل اتجاه، لكي يظل علي صلة بالحقيقية الشعرية حوله وفي العالم.
وكان محمود شرسا، وكان رقيقا.
وعندما قرر أن أعمل معه في (الكرمل) استدعاني وقال لي: أعرف موقفك من شعري، لكنني أحب أن أعمل مع من يختلف معي. وكان هذا يشير إلي حادثة قديمة قلت فيها: (محمود درويش شاعر كبير، لكنني لا أحب شعره).
وكان هذا تعبيرا عن صفائه، وصفاء أعماقه.
آسف لأنني أكتب هنا عن نفسي في سياق تذكر محمود، لكن عذري أن هذا يأتي في سياق الحديث عن تأثيره الساحق علينا جميعا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.