مبتسماً، استقبل المدعوم القرار، كما استقبل المرحلة برمتها، يثق فى السيسى وفى حكمته، يعلم أن «ما باليد حيلة»، ويدرك حجم التضحية، فقد كان سهلاً على السيسى الإبقاء على الوضع القائم أو اللجوء لصندوق النقد الدولى، ليظل بطلاً مغواراً فى عيون المصريين، لكنه أبى على نفسه، وقرر أن يبدأ فى التغيير ولو كان الثمن شعبيته. لم تفارقه الابتسامة وهو يدفع جنيهاً كاملاً فارق أجرة الميكروباص بعد زيادة أسعار البنزين، حافظ عليها أيضاً وهو يشترى مستلزمات أسرته «زوجة و3 أبناء»، لاحظ أن زيادة طارئة ألمّت بأسعار السلع، بدا الأمر منطقياً، لكنه قرر أن يتيقن من منطقه، سأل بقلب مستريح: «بالسرعة دى الزيادة اتطبقت؟!»، فجاءه الرد بضمير لن يستريح: «ما هو كله زوّد.. اشمعنى احنا؟!». غضّ المدعوم طرفه عن الإجابة ودلالتها، واصل تفاؤله وارتياحه، حتى وهو يسمع شجار زوجته مع سائق التاكسى، الذى يرفض تشغيل العداد ويحاول إجبارها على المقاولة، تدخّل لإنهاء الأمر ناصحاً: «العداد يا اسطى هيضمن حقى وحقك»، فإذا بالسائق يزيحهم خارج سيارته ولسانه يكمل بلطجته: «حقى هاخده بدراعى واللى مش عاجبه ينزل».. ما إن وصل لعمارته، حتى باغته البواب بقرار زيادة الإيجار، بدعوى زيادة أسعار الكهرباء والوقود، عصر المدعوم ذهنه فى محاولة لربط الأمرين: «إيه علاقة الكهرباء والبنزين بايجارات الشقق؟»، فأجابه البواب مدعياً الفهم: «أولاً دى أوامر أصحاب العمارة، ثانياً يا بيه مش فيه صيانة بتتعمل للعمارة ومصاريف بيتحملها صاحب البيت، وبعدين ما كل حاجة زادت، اشمعنى الإيجارات؟». منطقه الغريب استوقف الرجل كثيراً، جلس المحاسب بإحدى شركات الأدوية إلى نفسه يحدثها عن استغلال المصريين لبعضهم البعض، ومساعدتهم فى انتشار حالة غلاء عامة، قبل أن يرن هاتفه المحمول برقم أراحته إجازة الصيف منه، إنها مديرة المدرسة الخاصة التى يلتحق بها صغاره، يشارك الرجل فى جمعية سنوياً مع أصدقائه فى العمل ليوفر مصروفات المدرسة، فإذا بالمديرة تبلغه بالتالى: «فيه زيادة على مصروفات المدرسة اللى بلغناك بيها، وكمان زيادة على مصروفات الباص». صُعق الرجل وقبل أن يسأل عاجلته بإجابة: «وطبعاً من غير ليه، الكهربا زادت والوقود كمان، مين هيدفع الفرق ده؟»، ثم أنهت اتصالها.. ليسقط المدعوم مغشياً عليه وسط صراخ من زوجته وجيرانه: «حسبى الله ونعم الوكيل فيكى يا حكومة». تستحقها الحكومة فى مثل هذه الأيام المباركة.. فثمة عجلة فى الأمر، قرار تسرب كشائعة، قبل أن تتوالى ألسنة النفى عليه، ليضحى فى ليلة واحدة مطبقاً، دون سابق إنذار أو مشورة مجتمعية أو حتى تمهيد للمواطن، الوحيد الذى حصل على فرصته فى التمهيد والمعرفة والتجهيز والتخزين وربنا مش هيبارك له -بحسب قول رئيس الوزراء- هو التاجر.. ولهذا فإنه «قرار متسرع» حتى لو كانت له ضروراته. وبالطبع فإن للحكومة أسبابها فى رفع الدعم أو تخفيضه أو تقنينه، اختر ما شئت من مسميات، ما دامت النتيجة واحدة، وقطعاً للمواطن أسبابه فى رفض القرار أو الاعتراض عليه أو المطالبة بتعديل بعض بنوده، اختر ما شئت من مسميات فالنتيجة أيضاً واحدة، لكننى لا أجد -على الأقل من وجهة نظرى- أى مبرر لثلاثة يأكلون على الطبالى، بعضهم على طبلية «الثورة» خرج قبل أن يعى مضمون القرار ليسب ويلعن ويدعو لثورة ثالثة، ويولول على فقراء لم يكن يوماً منهم، ويتهم غيره بأنهم «مطبلاتية ومبرراتية»، والآخر يأكل على طلبية «النظام» خرج يثمّن القرار ويشيد بمتخذيه ويطالب بشد حزام على بطون التصقت بالظهور من فرط جوعها، وبمزيد من تقشف لم يُلزم به نفسه من الأساس، متهماً غيره بأنهم «سوداويون وغير وطنيين»، وثالث يأكل الجيفة، قرر أن يقتات على كل هؤلاء وركب هوجة الغلاء وقرر أن يرفع سعر كل شىء بمنطق: «ما هو محدش واخد باله».. فيما عدا الأصناف الثلاثة جلس المصريون كل إلى نفسه، يحسب حسبته ليقرر إذا ما كانت «أيام سودة»، أو «بكرة أحلى».