لم يسلم ملوك وأمراء محمد على من محاولات الاغتيال لكن بعض هذه المحاولات لم تكن دوافعها سياسية، مثل محاولة الأمير سيف الدين اغتيال الملك فؤاد، وقت أن كان أميراً ولم يصبح بعد سلطاناً أو ملكاً على مصر، وذلك بإطلاق الرصاص عليه فى نادى محمد على. وكان الأمير فؤاد أصغر أبناء الخديو إسماعيل، قد عاد إلى مصر من إيطاليا التى كانت لفترة منفى الخديو إسماعيل، وهناك تعلم فؤاد وأصبح ضابطاً بالجيش الإيطالى، ثم عاد إلى مصر ليعيش حياة كلها ترف وطيش وإسراف. واشتهر الأمير فؤاد بأنه «الأمير المفلس»، فعلى الرغم من أنه كان أميراً فقد كان يعانى من الضائقة المالية على الدوام ويقترض من هذا ومن ذاك. حتى نصحه البعض بأن يبحث عن عروس ثرية من الأميرات. ووقع اختيار فؤاد على الأميرة شويكار، التى كانت شابة جميلة تعيش فى قصرها، قصر رئاسة الوزراء الآن، مع شقيقيها الأصغر منها الأمير وحيد الدين والأمير سيف الدين، وكان والدهم قد رحل عن الحياة بعد أن طلق أمهم «نجوان هانم» التى كانت تعيش فى الأستانة. هكذا تزوج فؤاد المفلس من الأميرة شويكار، التى كان والدها قد ترك لها ولشقيقيها ثروة طائلة، وأقيم حفل عرس كبير شهدته القاهرة، وانتقلت شويكار للإقامة فى قصر الزعفرانة مع فؤاد. ولم تستمر أيام العسل طويلاً بالعروسين، إذ سرعان ما كشف فؤاد عن جشعه وانتهازيته، وبدأ يسىء إلى زوجته ويضغط عليها حتى تعطيه توكيلاً لإدارة ثروتها وأملاكها، وهو سببه الحقيقى فى الزواج بها. وعندما رفضت شويكار بدأ فؤاد يعتدى عليها بالضرب، وحبسها فى قصر الزعفرانة، لكنها تمكنت ذات يوم من الهرب وعادت إلى قصرها، وروت كل ما حدث من إساءات وإهانات فؤاد لها لشقيقها الصغير الأمير سيف الدين، الذى تأثر للغاية، وكان يحب شقيقته حباً جماً. وسرعان ما ظهر فؤاد وقام بانتزاع شويكار وشتمها أمام شقيقها الأصغر، الذى حاول منعه فما كان من فؤاد إلا أن صفعه بشدة، واصطحب شويكار معه عنوة. وبيت الأمير الشاب سيف الدين النية على الانتقام من فؤاد الذى أساء إليه وإلى شقيقته شويكار، ومن اليوم التالى اشترى مسدساً، وظل يبحث عن فؤاد حتى عثر عليه فى نادى محمد على، وأطلق عليه عدة رصاصات، وأصيب فؤاد لكنه نجا من الموت. وتم القبض على الأمير سيف الدين الذى لم ينكر التهمة، وأحيل إلى المحكمة، التى حكمت عليه بالسجن سبع سنوات تم تخفيفها إلى خمس سنوات، وترافع عنه المحامى الكبير إبراهيم بك الهلباوى، الذى كان يطلق عليه «شيخ المحامين»، الذى روى «لمجلة الدنيا وكل شىء» فى عام 1937 قصة ترافعه عن الأمير سيف الدين فى محاولة قتل الملك فؤاد. وقال إبراهيم بك الهلباوى يروى ما حدث: بعد صدور الحكم على الأمير سيف الدين بالسجن سبع سنوات من محكمة أول درجة، وفدت على دارى، وكانت إذ ذاك بشارع الدمالشة قرب ميدان عابدين بجوار دار الرمالى بك والد عبدالمجيد الرمالى صاحب المخابز المشهورة باسمه، وفدت على دارى صاحبة العصمة نجوان هانم والدة الأمير وسمو الأميرة شويكار شقيقته وطلبتا مقابلة المرحومة حرمى، وعلى الفور أجيبتا إلى سؤالهما، وقابلتهما زوجتى على غير موعد مضروب.. وقد بدت على محياهما علائم الحسرة والخوف ممزوجاً ببقية من الأمل تشرق تارة وتخبو أطواراً. كانت زوجتى من وصيفات القصر العالى، قصر الوالدة، ومن هنا نشأت بينها وبين نجوان هانم أواصر المودة التى تجمع بين بنات الجنس الواحد فى ديار الغربة، فكلتاهما شركسيتان من جوارى العائلة المالكة. *فيم جاءت والدة الأمير وشقيقته؟! - جاءتا لترجوا زوجتى أن تحدثنى فى أمر الدفاع عنه أمام محكمة ثانى درجة «الاستئناف» ولم يخف على شريكة حياتى ما يجره الدفاع عنه من متابع منظورة وغير منظورة، فترددت فألحتا فى الرجاء، فوعدتهما خيراً. قبلت الدفاع عن الأمير فى محكمة ثانى درجة من غير مساومة، وللآن لا أعرف بالضبط كم تقاضيت مكافأة على مرافعتى، لأنى أنظر إلى مهنة المحاماة على اعتبار أنها مهمة إنقاذ قبل كل شىء، فالمحامى كجندى المطافئ وحراس الشواطئ، واجبه الأول المبادرة إلى دفع الخطر عن موكله وتبديد الشبهات التى تحوم حوله، ولولا أن المحامى ينفق ويكابد النفقات الطائلة فى قيامه بمهمته، لما طلبت من أحد قرشاً واحداً عن مرافعاتى. والخلاصة أن الأميرة ووالدتها، قدمتا بعد قيامى بمهمتى مبلغاً لا يرتفع إلى الألف جنيه، ويقل عن خمس ما تقاضاه المحامون عنه أمام محكمة أول درجة. عرفت من الأميرة ووالدتها أن سبب لجوئهما يرجع إلى شيئين رئيسيين: أولهما أنهما لم تحسنا إظهار النقطة الرئيسية فى الدفاع، وهى أن الأمير ضعيف العقل سريع التهيج وأنه أطلق الرصاص فيما مضى على نفر من الأتباع بلا مبرر معقول أو مسموع يقام له وزن. والواقع أن المحامين عن الأمير أمام محكمة أول درجة قد تورطوا فى إيراد الشواهد وإيراد الأدلة من المراجع، ولم يديروا الدفاع حول محور «أنه ضعيف العقل» وجدير بالمحكمة أن ترسله إلى مصحة للأمراض العقلية بدلاً من أن تزج به فى غيابة السجن يشقى مع المجرمين جزاء وفاقاً لما جنت يداه. عقدت الجلسة فى محكمة الاستئناف وكان مقرها إذ ذاك فى سراى حسين الدرمللى باشا بشارع سليمان باشا وأرجح أننى ذهبت إلى المحكمة سيراً على الأقدام لقرب المسافة بين منزلى فى عابدين وبين المحكمة، وأذكر أن الشارع كان مكتظاً بالجماهير وكذلك فناء السراى وردهاتها وغرفة الجلسة، وكان الجمهور معظمه من الطبقة المثقفة. دخلت إلى غرفة المحكمة بصعوبة فوجدت هيئة المحكمة مؤلفة من أحمد باشا عفيفى والإمام محمد عبده مستشاراً أول ومن قضاة آخرين نسيت أسماءهم لطول العهد بالقضية. وباشرت مرافعتى وأدرتها حول نقطة واحدة، هى أن الأمير ضعيف العقل، وذهبت أدلل على ذلك بإيراد حوادث اعتدى فيها الأمير على أفراد حاشيته وخدمه.. ولست أذكر تماماً هذه الحوادث، فإن لم تخنى الذاكرة فإنه ذات مرة نادى على خادم قريب منه فلم يلب النداء، فدخل فى وهمه أنه تعمد التصامم على ندائه، فأطلق عليه مسدسه كيما يتأدب مع سيده وولى نعمته، ولا أظن أن المسكين تعلم هذا الدرس فى «الإتيكيت» وهل يتعلم الموتى؟! وذات مرة أطلق الرصاص على سائق عربته «الفتيون» فى الجزيرة، لأنه أمره بالإسراع وإلهاب ظهور الجياد عقاباً لها على أنها «حرنت» فى الطريق، فخشى السائق أن تزداد «حرناً» إذا ألهبها بالسياط، لكن الله سلم واخترقت الرصاصة أجواز الفضاء ومرت جنب أذنه، أذن السائق المذعور.. وأطلق الأمير وهو فى ريعان الشباب رصاصات أخرى فى مناسبات شتى ما كان أحراه أن يضن بها. ومن طريف ما حدث أن المحكمة اعتبرت الأمير مسئولاً عن تصرفاته إلى حد ما، على اعتبار أن الجنون على درجات، لكنها خفضت الحكم من سبع سنوات إلى خمس، وبعد مدة أخذت السلطات العليا برأيى الذى أيدته بالأدلة فى مرافعتى، فأرسلته إلى مصحة الأمراض العقلية فى إنجلترا، وأجرت عليه مرتباً سنوياً قدره 2000 جنيه من ريع أملاكه. وإذا صح هذا الذى بلغنى فحواه أن الأمير مات منتحراً، فإن قضيته تذكرنى بقضية مشابهة، صحت فيها فراستى وأيدت الحوادث صدق رأيى، ذلك أننى ترافعت فى قضية أتهم فيها المرحوم عبدالرحمن مزروق ابن أخت المرحوم على باشا شعراوى، بتهمة إطلاقه الرصاص على دائن له استصدر حكماً ضده، وقد اعتدى عليه وهو خارج من المسجد بعد الصلاة. ولم يكتف بهذا بل أطلق الرصاص على الخفراء فأصاب ثلاثة منهم إصابات غير مميتة.. فكانت خلاصة مرافعتى أن بعقله لوثة والأوفق إرساله إلى مستشفى الأمراض العقلية فلم تأخذ المحكمة بدفاعى وحكمت عليه بالسجن 18 عاماً، وقد أطلق سراحه عندما تولى السلطان حسين الحكم، لكنه لم يلبث أن اعتدى على نفسه ومات منتحراً. ولست أفاخر إذا قلت إن الجمهور قد هنأنى على حسن بلائى فى مرافعتى، لكنه امتعض من الحكم واعتبره قاسياً وود لو أخذت المحكمة برأيى. لكن قضية الأمير سيف الدين لم تنته بعد الحكم عليه بالسجن، بل كانت هناك شبه مؤامرة تم فيها تسفيره من مصر وإيداعه فى مصحة عقلية على أطراف لندن، ووضعت ثروته الطائلة تحت وصاية لجنة من القصر الملكى الذى تربع فؤاد على كرسيه. وظل الأمير سيف الدين حبيس المصحة العقلية فى بريطانيا سنوات طويلة، وعندما فشلت كل مجهودات أمه «نجوان هانم» لإطلاق سراحه، دبرت خطة لهروبه من المصحة مع اثنين من الممرضين بمساعدة مخبر خاص أمريكى! وبالفعل تم تنفيذ خطة الهروب، وسافر الأمير الهارب إلى الأستانة ونجح فى الوصول إليها، رغم مطاردة بوليس إسكوتلانديارد له فى كل أوروبا، وفى الأستانة تم علاجه وتزوج. وأقامت والدته «نجوان هانم» قضية فى مصر تطالب فيها بإعادة ثروته، وقد ترافع فى هذه القضية مصطفى باشا النحاس، لكن فؤاد والقصر وحاشيته حاولوا استغلال ذلك فى الهجوم على الوفد وزعيمه. وفشلت هذه المحاولة، لكن تلك قصة أخرى. ورغم ذلك فقد مات الأمير سيف الدين دون أن يحصل على ثروته الطائلة. وطالبت مصر بإعادة جثمانه من الأستانة، لكنه ظل مدفوناً هناك، مع أسرار حكايته الغريبة!