كان أبي رحمه الله لِيُصمِت حديثنا بإشارة حازمة من يده خلال متابعتِهِ لحديث المرشح عبد الفتاح السيسي، فوالدي من جيل مقتنع بالرئيس القوي الزعيم، ويَعتقدُ كغالبية الآباء أن جيلنا فاشل، بل ورقيع، رغم أننا لم نرتد "شارلستون" لونه أحمر كما تُظهر صور بعض أصدقاءه خلال فترة الدراسة الجامعية. كان سيُؤكد لي أن مصر تتعرض لمؤامرة، وأن تنظيم "إخوان الشياطين" - هكذا كان يسميهم - هم أداة تنفيذ هذه المؤامرة وكنا سندخل في النقاش التالي. أبي: ألا ترى المؤامرة، ألا ترى حجمها، تنظيم سري إرهابي أوصل رجُلُه لمنصب الرئيس وكاد يسيطر على مؤسسات الدولة، لولا الله أنقذ مصر على يد جيشها وقائده الذي تَسخر منه مع بعض أصدقائك. أنا: عفوا يا أبي لكن التنظيم قدم مرشحَه في وجود السيسي على رأس جهاز مخابرات الحربية، فكيف سمحت المخابرات لعميل بالترشح؟ ستقول لي الإخوان هددوا بحرق البلد، عفوا يا أبي لكن السيسي ذكر في حديث تلفزيوني أن مرسي رفض تقديم تنازلات سياسية مثل استفتاء على شرعيته، فهل إن كان قبل مرسي تنازلا سياسيا لكان بقي العميل رئيسا لمصر إلى الآن؟ أبي: أنت جاهل، ولا تملك كل المعلومات التي تؤهلك لإصدار أحكام عن هذا الأمر، هذه الأجهزة تملك معلومات تتصرف بناءاً عليها. أنا: أتقصد مثل المعلومات التي أعلن السيسي عن كشفها يوم كان وزيرا للدفاع لفضح المؤامرة أمام شعب مصر ولا نزال في الانتظار. أبي يطلق زفيرا حارا ويسألني: ما اعتراضكم على السيسي؟ أجيبه: الحرية، الديموقرا.... يقاطعني أبي: وهل قفز على كرسي الحكم، الرجل سيُرشح نفسه، ولك أنت وأصدقائك أن تقاطعوا أو تبطلوا أصواتكم أو صوتوا لحمدين، أنت قابلته وتعرفه، صوت له إذا. أنا: لي تحفظات كثيرة على حمدين، أولا تحالفه مع الإخوان في أول انتخابات برلمانية بعد الثورة، وهي غلطة لا تغتفر وزلة ستطارده إلى القبر، ثانيا منذ الإطاحة بمرسي وإلى شهرين ماضيين اختفى من الساحة، ولم يقم بما أعتقد أنها فروض العمل السياسي من زيارة المحافظات والاختلاط بالناس، ثالثا وأخيرا، هو يُعيد نفسه بشكل ممل، نفس الخطاب منذ أن كان يعارض مبارك، لا تجديد في الخطاب، لا أفكار خلاقة خارج الصندوق، لا مبادرات مبدعة. أبي: إذا قاطع أو ابطل صوتك. أنا: لن أقاطع، وأختلف مع أصدقائي المقاطعين، فيجب علينا أن نشارك في هذه الانتخابات بكثافة عددية لتفوق نسبة المشاركة في الانتخابات التي أتت بمرسي، لسحب أي ادعاء زائف بالشرعية من الجماعة، وتأكيد أن 30 يونيو ثورة شعبية وليست انقلابا عسكريا سيصل قائده لمنصب الرئاسة ولو عبر صناديق اقتراع. أبي: إذا ماذا تريد؟ ستبطل صوتك؟ أريد رئيسا يجعل أولويته إصلاح نظام التعليم بالكامل ومحو الأمية ونشر الوعي السياسي والحقوقي، على التوازي مع محاربة الفساد وتبني آليات اقتصادية غير اعتيادية، وهناك أفكار مبدعة كثيرة طُبِقت في الهند وأمريكا اللاتينية أتت بنتائج مذهلة خلال عامين فقط، أريد رئيسا يتبنى مشروعا قوميا تلتف البلد بأسرها حو... يقاطعني أبي مجددا معطيا نفسه هذا الحق بحكم أنه أنجبني: السيسي سيحارب الإرهاب ويتصدى للمؤامرات التي تحاك ضد هذا الوطن، اصطففنا حوله كما اصطفننا في أكتوبر. أُمسِكُ لساني بصعوبة عن تذكيره بأن همومه في أول أسبوع في أكتوبر من عام 73 كانت أبعد ما يكون عن الحرب لأنه غير مجند، وأرد قائلا: كلا المشروع القومي الذي أحلم به يجب أن يكون مثل عاصمة جديدة لمصر، فمث... يصرخ أبي في وجهي: ماذا؟ عاصمة جديدة، من أنت لتطالب بفكرة مجنونة مثل هذه، ويهم باستدعاء أمي كي تسمع تخاريف ابنها. أحاول التوضيح: يا أبي، هذه فكرة طبقتها دول كثيرة شاخت عواصمها القديمة، واكتظت بالسكان واستعصت مشكلاتها على الحل، فكان الطريق الوحيد هو عاصمة جديدة، بناءها سيكون بمثابة رافعة للاقتصاد الوطني، وسيُراعى فيها كافة المعايير الهندسية والتنظيمية لتفادي المشكلات التي استعصى حلها في القاهرة، مع الوضع في الحسبان احتمال تضاعف مساحة العاصمة الجديدة وسكانها لمرات عدة خلال الخمسة عقود المقبلة. إن كنت حكيما كما يدل كلامك، فلماذا لم تكمل في كلية الهندسة بدلا من العمل في الصحافة، كانت هذه الجملة من أمي خلال مرورها بجوارنا. أبي: وأي عقل في هذا، هل زرت يا أفندي أيا من هذه العواصم، فكرتك هذه فشلت أكثر مما نجحت. أنا: لكنها تستحق عناء التفكير، القاهرة تخنقنا يوما بعد يوم، وحل مشكلاتها صار دربا من المستحيل يعجز عنه الجن قبل الإنس. أبي: وماذا ستسمي عاصمتك الجديدة؟ سكتُّ متذكرا مثلا شعبيا طالما رددته أمي على مسامعي عن "اللي يجي في ... ويتصدر" أحجمتُ عن ذكر الكلمة ولو في ثنايا عقلي احتراما لأبي وتمتمت: سمها ما شئت ليست هذه المشكلة أبدا، المهم أن تكون بعيدة فعلا عن القاهرة، على الأقل 300 كم حتى لا تكون امتدادا لها فتتضخم المشكلة بدلا من أن تحل. أبي: ولماذا لا تقترح فكرتك على حملة السيسي، لديه لجنة شباب، وأعلنوا عن ترحيبهم بالأفكار الجديدة. أنا: أتقصد لجنة الشباب التي يترأسها كهل في الخمسين، وهي اللجنة التي لم يقابلها السيسي إلى الآن! أبي: بالتأكيد يوجد تواصل بينه وبينهم، وإن أعددت مشروعك بشكل جيد فمن يعلم، لربما نفخر بك. أنا: لن يحدث يا أبي، فالسيسي مرشح تقليدي، لا يعترف بنا، ينظر لأبناء جيلي على أنهم عملاء، أو مغرر بهم على أفضل تقدير. أبي: لكنه دائما يشيد بالشباب. أنا: هو يقصد الشباب من المجندين والضباط من اعتاد أن يصدر لهم أوامره في الجيش فينفذون دون نقاش، آملين أن يأتي اليوم الذي يأمرون فيه فيطاعون دون نقاش. أبي: أتقدح في الجيش، أوليس هو من لبى ندائك أنت وجيلك مرتين، ولولاه لكنتم في خبر كان، أم نسيت أصدقائك في الاتحادية. يا بني، الجيش انضباط وطاعة، لا مجال للجدال خلال الحرب وإلا هلكنا. أنا: لم أنس الاتحادية ولكنك أنت من نسيت، نسيت ماسبيرو، ومحمد محمو.... قاطعني مجددا: تلك فترة ولت بقياداتها ومرها. أردت مقاطعته وإثبات أن القيادات لم تتغير كثيرا، لكني آثرت السلامة وقلت: السيسي أعلن أنه يأمل أن تُدار مصر كلها كالجيش، وتعرف أن تجربتي الشخصية مع التجنيد لم تمتد لأكثر من أيام، وكرهت فيها طريقة سير الأمور بتلك الطريقة: نفذ ولا تناقش، أنت لم تنشأني هكذا، بل ربيتني على إعمال العقل والمنطق. أبي: وندمت الآن فقد خلقت منك مجادلا بالباطل، لماذا لا تمتهن المحاماة، أعدك أنك ستنجح فيها أكثر من الصحافة. تدخلت أمي - المحبة لعبد الناصر - وما مشكلة الجيش؟ السيسي مثل ناصر، سيسجن الإخوان ويقضي على الإرهاب وتسير دفة البلد مرة ثانية، ألم تسمع حديثه عن دعم الفقراء؟ عبَس وجه أبي - المحب للسادات - وقال: كلا طبعا، السيسي مثل السادات، سيسجن هؤلاء اليساريين والقوميين ويفتح أبواب الاستثمار، ألم تسمعا بحزمة القوانين الأخيرة، لن يستطيع كل من هب ودب الطعن على عقود البيع للمستثمرين الأجانب، وسيدور الاقتصاد. ابتسمت من سخرية التناقض بينهما وسألت: عفوا من يحكم مصر منذ 10 أشهر؟ أبي: الرئيس المؤقت عدلي منصور طبعا. أنا في سخرية: حقا! أبي: ماذا تقصد، كلنا يعلم خارطة الطريق، والمرحلة الانتقالي... قاطعتُهُ، وهي من المرات القلائل التي أتجرأ فيها على مقاطعته لكن فاض الكيل، وعلت نبرة صوتي: كلنا يعلم من يحكم مصر حقا منذ 3 يوليو الماضي، أخبروني ماذا قدم، ماذا أنجز، ماذا فعل على صعيد ملف مثل الأمن الجنائي، كل يوم تقريبا أسمعكما تتحدثان مع الأقارب والأصدقاء عن جرائم سرقة وبلطجة وتحرش وغير ذلك، تُرتكبُ في وضح النهار، والشرطة ترفض تحرير محاضر وعلى أفضل الأحوال ينصحوك بالتنبه لهاتفك والتفاوض مع من سيتصل بك، أتسمعان ما تقولان، كل منكما يؤيد السيسي لأنه سيسجن أو يقضي على أعداءكما، وهما بالمناسبة مختلفان بالضبط مثلما يختلف فريقه بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، الرجل حتى لم يقدم لكما برنامجا لتعرفا موقفه الحقيقي، هل سيكون مثل عبد الناصر أم مثل السادات، أفبعد تجربته في الحكم لنحو عام كامل مازلتما تؤيدانه رغم انقطاع الكهرباء والبطالة والجريمة. أبي: عندما يحكم فعليا سنقيم حكمه. أنا: بناءاً على ماذا؟ برنامجه السري، أم أحاديثه وخطاباته المليئة بالتناقضات والحلول المضحكة. أبي: لا يجب على ضابط الجيش أن يكون خطيبا مفوها. أمي تتمتم: رحمك الله يا ناصر. أبي وقد فهم تلميح أمي: السادات أيضا كانت له كاريزما ويستطيع الخطابة. أنا: لم أطلب من ضابط الجيش أن يكون خطيبا، أو يتعلم ويتدرب على مخاطبة المدنيين في فترة وجيزة، جل ما طلبته أن يقدم لنا خططه لحل ما يواجه مصر من مشكلات، مع آليات التنفيذ والجدول الزمني، وليعلنها بنفسه قراءة من ورقة، أو يعلنها فرد من حملته، أو حتى يضعها في موقعه على الانترنت، لكن لا برنامج انتخابي، ولا خطط مستقبلية واضحة، ولا أي انجاز يُذكر خلال فترة حكم دامت لعام تقريبا، كيف أقتنع به! أبي: ومحاربة الإرهاب في سيناء وانخفاض معدل التفجيرات أوليس إنجازا، ثم تعال هنا، انترنت، هذا ما تبرع فيه أنت وجيلك. بائع الخضر وسائق سيارة الأجرة لا يعرفان عن الانترنت إلا أنها مصدر الشر الذي اقتطع من رزقهما اليومي، وكان بالكاد يكفيهما، أنت وجيلك من شباب الانترنت لا تعرفون شيئا عن فلاحي مصر وعمالها، هؤلاء لا يعرفون الانترنت، السيسي يخاطب هؤلاء بلغتهم التي لا تعجبك أنت وجيلك، لكنها تصل لعقول البسطاء وقلوبهم، هؤلاء هم شعب مصر الحقيقي، وصدقني يا بني، تراكمت في جيناتهم حكمة 7 آلاف عام، ويستطيعون أن يميزوا بين الثمين والغث، ماذا فعلتم يا من تسمون أنفسكم شباب ثورة يناير، أطحتم بمبارك بمساعدة من؟ الجيش طبعا، الذي إن أراد لأصبحنا مثل سوريا في ظرف إقليمي ودولي متربص بنا، ولكن بعد أن نجحتم في عزل مبارك، ماذا فعلتم، أخبرني؟ كلما جلس بعض منكم للتفاوض حول مرحلة ما بعد مبارك، خرج البقية يصرخون: هؤلاء لا يمثلونا، فقط يمثلون أنفسهم. حسنا، أيعقل أن نبحث عنكم في المقاهي والميادين ومواقع التواصل الاجتماعي للتفاوض مع معاليكم فردا فردا، لم تنجحوا في بلورة أي كيان يعبر عنكم ويمثلكم للتفاوض مع المجلس العسكري، لم تكونوا حزبا سياسيا ولم تنخرطوا في حزب قائم، لم تصلوا للبسطاء والفقراء لإقناعهم بما فعلتم ولا لتشرحوا لهم خارطة طريقكم –إن وجدت- ، أنسيت مظاهرات خرج فيها العشرات منكم وكان الحشد والدعوات للتظاهر تحت مسمى مليونيات، من أنتم؟ وأشاح بيده غاضبا معلنا انتهاء النقاش. لاحظت أن برنامجه المفضل بدأ على شاشة التلفاز وأنه استقر على أريكته في الزاوية المريحة وفرد ساقيه. أشارت لي أمي بأن ندخل حجرتي فقد تلبد وجه أبي بالغيوم، وهمست لي في الداخل، لا تناقشه أكثر من هذا، فحالته الصحية لا تتحمل. أجبتها: هذه المشكلة، كل نقاش معكما ينتهي بقمعي بطريقة أو بأخرى، حسنا، لكن سأقاوم هذا القمع على بطريقتي ولو على الانترنت وسترين أننا جيل سيكسر الحلقة المفرغة لتداول السلطة التي تدور بين الجيش تارة ورجال الدين تارة، نحن جيل كسرنا حاجز الخوف، جيل عرف ورأى وسمع ما لم تدركاه، جيل حطم حائطا كنتما تسيران بجانبه خوفا، جيل صرخ بكلمة "لا"، بينما كنتما تقولا "نعم" همسا. قد يكون أبي محقا في أننا لم نتبلور سياسيا ولم ننزل لرجل الشارع البسيط، لكنكما وجيلكما خذلتمونا في كل استحقاق انتخابي، ارتضينا عقب الإطاحة بمبارك بسيناريو التغير السلمي، لم نعلق مشانق في الشوارع لرموز نظامه، لم نصادر أموالهم ولم نهدم الوطن، فقط طلبنا الحد الأدنى من حقوقنا الإنسانية والاقتصادية والسياسية، ولن نقبل بأنصاف الحلول، لأننا اكتشفنا أن جذور الفساد الضاربة في التربة المصرية ستفُسِد أنصاف الحلول وتحيلها لمسخ، سنستمر في مسعانا، وما أخافه أن يمل بعضنا من السلمية، أو أن تنطبق على مصر الحتمية التاريخية للثورات فتكون الموجة القادمة مخضبة بأنهار من الدماء. اسمحي لي أنا هذه المرة أن أنهي النقاش، فلا توجد لغة مشتركة بيننا، وخرجت من الشقة وقد اقتنعت بجزء من حديث أبي وعزمت على الذهاب إلى لجنة الانتخابات. أمي: لا تتأخر فقد أعددت لك صينية الكوسة التي تحبها. أغلقت باب الشقة وعلت وجهي ضحكة عندما لمحت ابتسامة أمي الساخرة التي تعرف جيدا كرهي للكوسة في جميع أشكالها.