أنت ليبرالى؟.. لأ.. إخوانى؟.. لأ.. ناصرى؟.. لأ.. أكيد مش سلفى.. مش باين عليك.. يمكن يسارى؟.. لأ.. حيرنى بالأسئلة فحيرته بكلمة «لأ». أربعينى لديه اهتمام بالشأن العام أخذ يناقشنى عقب محاضرة ألقيتها فى إحدى الجامعات. ومعه حق.. فالأسهل له أن يرص الناس فى خانات.. وليس وحده الذى يصنف.. كثيرون بدأوا يهتمون بالتصنيف السياسى. وهو أمر مزعج وخطير إن لم يفهم الناس لماذا يصنفون بعضهم، وكيف يكون التصنيف. التصنيف السياسى ليس خطراً لو كان الناس يؤمنون بالتنوع وبحق كل منهم أن يكون ما يشاء. لكن المجتمعات التى تعايرك بفكرك أو تنظر بتوجس لما تقوله، قد تجعل التصنيف السياسى وسيلة للإقصاء إن لم يكن للضرر والإيذاء. فمن تربى على إنكار حق غيره فى إبداء الرأى يسرع فور أن يستمع لرأى غير الذى يعتقد فى صحته المطلقة إلى تصنيف ما سمعه. تماماً مثل هذا الرجل الذى لاحقنى بأسئلته، وكأن لسان حاله يقول «حتتصنف يعنى حتتصنف». تذكرت أكاديمياً عربياً صديقاً لى لفت انتباهى قريباً إلى بُعد خطير بشأن التصنيف السياسى. قال إن ثقته فى نجاح الربيع العربى لا تزيد على ثقته فى اكتشاف الماء على سطح الشمس. والسبب فى رأيه أن التيارات السياسية الجديدة بدأت تفتح لبعضها ملفات وكأنها تؤدى ما كانت تؤديه مؤسسات الأمن القديمة إلى أن تسترد هذه كامل عافيتها. وهى لا تكتفى بتصنيف الفاعلين فى التيارات الأخرى وإنما تشمل أيضاً المتعاطفين معها. ومع أنى لست مقتنعاً تماماً باستنتاجه فإننى لا أستبعد أن شهوة البعض وغريزة العمل السياسى يمكن أن تؤديان فعلاً إلى تلك الكارثة. التصنيفات السياسية مهمة لكنها لا تجرى لتخوين هذا أو الاستهزاء بذاك وإنما لكى تتاح للمجتمع بدائل عديدة تسمح لأفراده بفرص أوسع للاختيار. كما أنها وسيلة لترتيب النظام السياسى حتى لا يكون مائعاً؛ كل من فيه يشبه الآخر، وإنما ليضم ممثلين لأفكار مختلفة لا غضاضة على أى منها. ثم إن تقسيم الساحة إلى تيارات سياسية مختلفة إنما يجب أن يأخذ فى اعتباره اختلاف هذه التيارات على الوسائل وليس على الأهداف. خذ مثلاً موضوع العدالة الاجتماعية وهو ما استوقف هذا الرجل الكريم الذى حاول تصنيفى رغم أنفى. قلت له إن الاشتراكيين يريدون الوصول إلى العدالة الاجتماعية، وكذلك الإسلاميون، وبالمثل الليبراليون، فاندهش. قلت له إن وسيلة الاشتراكيين هى الدولة القوية أى عدالة اجتماعية آمرة. أما الليبراليون فوسيلتهم قناعة الفرد الميسور بأن رخاءه يتطلب تسديد كامل ضرائبه حتى تتمكن الدولة من سد حاجة الفقراء، أى عدالة اجتماعية مردها العقل والمصلحة. وبالنسبة للإسلاميين فوسيلتهم تأخذ بقدر من هذا وقدر من ذاك لكنها تعوّل أكثر على استنهاض القيم الدينية وترغيب الفرد فى العطاء تقرباً إلى الله. أى عدالة اجتماعية مدخلها أخلاقى، فتحولت دهشته إلى حيرة. للأسف يرى البعض أن التصنيف السياسى لا يكون صحيحاً إلا على أساس اختلاف الأهداف. وهذه هى المشكلة لأن المجتمعات الفاشلة والمتهورة هى التى تفعل ذلك فتسمح بالتصنيف السياسى على أساس اختلاف الأهداف. أما المجتمعات المنجزة والمستقرة فالأولويات والأهداف فيها معروفة. الاختلاف ينحصر بالأساس فى النقاش حول وسائل بلوغها. والأمل أن تنضج تياراتنا السياسية الجديدة فلا يصنف أصحابها الناس سراً فيضعوا أسماء بعينها فى خانات بعينها. فاحذر عزيزى القارئ من أن تصنف أحداً غصباً عنه، واحذر أيضاً من أن يصنفك أحد فى غير الخانة الصحيحة. فما تزال ثقافتنا تهوى التصنيف على غير هدى ولغير السبب الذى خلقت التصنيفات السياسية فى الأصل من أجله. التصنيفات السياسية لا يجب أن تعكس إلا الفروق بين أبناء الوطن على أدوات خدمة الوطن، ولا يصح أن يتخذها البعض وسيلة للادعاء على البعض الآخر بخيانة الوطن.