جامعة قناة السويس تشارك في الملتقى الافتراضي الخامس للتواصل والتفاعل مع أصحاب الأعمال    رئيس "سلامة الغذاء" يهنئ الرئيس السيسي بالذكرى 42 لعيد تحرير سيناء    سعر الذهب اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024 وعيار 21 بالمصنعية بعد ارتفاع المعدن الأصفر (التفاصيل)    توريد 22455 طن قمح في كفرالشيخ حتى الآن    مسجلة 1.2مليار دولار.. "الصادرات الهندسية" تحقق أعلى رقم في تاريخها خلال الربع الأول من 2024    نائب وزير الإسكان يفتتح معرض إدارة الأصول في نسخته الخامسة    صفارات الإنذار تدوي بعدد من مستوطنات الجليل الأحمر شمال إسرائيل    جيش الاحتلال الإسرائيلي يعتزم نشر قوات جديدة في غزة    الأرصاد تنصح المواطنين بشرب السوائل وارتداء غطاء للرأس    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    بسبب الحرب على غزة.. كل ما تحتاج معرفته عن احتجاجات الجامعات الأمريكية    تكذيبا للشائعات.. إمام عاشور يغازل الأهلي قبل لقاء مازيمبي بدوري الأبطال| شاهد    مروان عطية يصدم الأهلي قبل مواجهة مازيمبي الكونغولي    بعد عودة الشناوي.. تعرف على الحارس الأقرب لعرين الأهلي الفترة المقبلة    مواعيد مباريات اليوم الأربعاء 24-4-2024 والقنوات الناقلة    "لا يرتقي للحدث".. أحمد حسام ميدو ينتقد حكام نهائي دوري أبطال آسيا    محفظة أقساط شركات التأمين تسجل 8.38 مليار جنيه خلال يناير 2024    قرار عاجل من التعليم بشأن الطلاب غير المسددين للمصروفات في المدارس الرياضية    الكونجرس الأمريكي يقر قانون حظر تيك توك    تفاصيل الحالة المرورية بالمحاور والميادين صباح الأربعاء 24 أبريل    اليوم.. استكمال محاكمة المتهمين باستدراج طبيب وقتله بالتجمع الخامس    مصرع مُسنة دهسا بالقطار في سوهاج    عاجل:- تطبيق قرار حظر الصيد في البحر الأحمر    «خيال الظل» يواجه تغيرات «الهوية»    طرح فيلم ANYONE BUT YOU على منصة نتفليكس    نجوم الغد .. أحمد ميدان: هذه نصيحة السقا وكريم لى    ريانة برناوي أول رائدة فضاء سعودية ضيفة «يحدث في مصر» الليلة    دعاء الحر الشديد.. 5 كلمات تعتقك من نار جهنم وتدخلك الجنة    تقديم خدمات طبية لأكثر من 600 مواطن بمختلف التخصصات خلال قافلتين بالبحيرة    رئيس هيئة الرعاية الصحية: خطة للارتقاء بمهارات الكوادر من العناصر البشرية    رئيس «المستشفيات التعليمية»: الهيئة إحدى المؤسسات الرائدة في مجال زراعة الكبد    تجديد منظومة التأمين الصحي الشامل للعاملين بقطاعي التعليم والمستشفيات الجامعية بسوهاج    فوز الدكتور محمد حساني بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    8 مليارات دولار قيمة سلع مفرج عنها في 3 أسابيع من أبريل 2024.. رئيس الوزراء يؤكد العمل لاحتياط استراتيجي سلعي يسمح بتدخل الدولة في أي وقت    اليوم.. «خطة النواب» تناقش موازنة مصلحة الجمارك المصرية للعام المالي 2024/ 2025    متحدث "البنتاجون": سنباشر قريبا بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة    مفوض حقوق الإنسان أكد وحدة قادة العالم لحماية المحاصرين في رفح.. «الاستعلامات»: تحذيرات مصر المتكررة وصلت إسرائيل من كافة القنوات    تاريخ مميز 24-4-2024.. تعرف على حظك اليوم والأبراج الأكثر ربحًا للمال    4 نصائح مهمة من «مرفق الكهرباء» قبل شراء جهاز التكييف.. استشر فنيا متخصصا    الذكرى ال117 لتأسيس النادي الأهلي.. يا نسر عالي في الملاعب    الشيوخ الأمريكي يوافق على 95 مليار دولار مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    تعرف على مدرب ورشة فن الإلقاء في الدورة ال17 للمهرجان القومي للمسرح؟    الصين تعارض إدراج تايوان في مشروع قانون مساعدات أقره الكونجرس الأمريكي    مصطفى الفقي: مصر ضلع مباشر قي القضية الفلسطينية    نتائج مباريات الأدوار من بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    بعد وصفه بالزعيم الصغير .. من هم أحفاد عادل إمام؟ (تفاصيل)    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. أحمد صقر عاشور يكتب: إشكاليات التنوير وتجديد الفكر الديني
نشر في الوطن يوم 19 - 05 - 2020

يمكن أن يمثل الفكر الدينى إحدى ركائز النهضة والتقدم إذا كان معنياً بالمعايير القويمة فى السلوك والمعاملات، ويحض على التطور والسعى والاجتهاد والأخذ بالعقل والعلم والأسباب، ويدفع إلى توسيع دائرة الحريات وتعميق المشاركة. هذا فضلاً عن كونه آلية قوية للرقابة الذاتية تمكن من ضبط حركة وسلوك المجتمع. لكن الفكر الدينى يمكن أن يؤدى إلى عكس هذه المقاصد إذا حرفت مضامينه ليتحول إلى آلية لتكريس الشكليات والجمود والرجعية والاستبداد والتعصب والاستقطاب والعداء والعنف بين أفراد المجتمع وتجمعاته. من هنا فإن تجديد الفكر الدينى فى المجتمع المصرى الذى يعانى حالياً جزء كبير منه من التراجع القيمى والأخلاقى والاستقطاب بين أفراده واضطراب أوضاعه مع سيطرة وتغلغل الفكر السلفى الرجعى المتعصب الجامد، يصبح مطلباً أساسياً لنهضة المجتمع وتقدمه وتوسيع الحريات الملتزمة فيه وتحقيق السلام بين شرائحه وقطاعاته. لكن تحقيق هذا المطلب تواجهه تحديات وإشكاليات كبرى يتعلق بعضها بالمقصد والغاية من التجديد، ويتعلق البعض الآخر بعلاقة الدين وتجديد مفاهيمه بالدولة والسياسة، ويتعلق البعض الثالث بالسياق الثقافى والمجتمعى للتغيير والتجديد، وتتناول الإشكالية الرابعة ما يتعلق بنظام التعليم، وتختص الإشكالية الخامسة بالجهات التى تقود مبادرات التنوير والتجديد الدينى، أما الإشكالية السادسة فتتعلق بمنهج إحداث التغيير والتجديد. وما لم تعالج هذه الإشكاليات الست يصبح مطلب تجديد الفكر الدينى مطلباً صورياً لا يتحقق معه تغيير على أرض الواقع، والأخطر ستتعثر محاولات النهضة والتقدم وتستمر قطاعات المجتمع الواقعة تحت تأثير الفكر الدينى السلفى ترزح فى التخلف والجمود.
إشكالية المقصد والغاية:
هناك مقاصد عدة بديلة للتنوير وتجديد الفكر الدينى
يمثل التصدى للمنابع الفكرية للإرهاب والتعصب والتطرف أكثر الغايات شيوعاً وتعود جذوره المعاصرة إلى أحداث الاغتيالات والتفجيرات والعنف فى مصر خلال القرن العشرين وإلى أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث ارتبط الحدث الأخير وأحداث الإرهاب التالية بتنظيمات إسلامية متطرفة منبعها منطقة الشرق الأوسط. وقد تراوحت ردود فعل النظام المصرى بين الحظر والملاحقة للتنظيمات الدينية المتورطة فى العنف أو مقابلة العنف بعنف مناظر موجه لأفراد التنظيمات والجماعات، لكنها لم تتوجه طوال هذا التاريخ إلى البحث فى الجذور الفكرية لهذه التيارات والسعى لتقديم بديل مستنير وبث هذا البديل ونشره وتعميقه فى وعى وثقافة المجتمع. وتفاوتت محاولات دول المنطقة فى مواجهة الفكر الإسلامى المتطرف بين حملات لتصحيح أفكار ومدركات الغرب عن الإسلام (أى توجه خارجى)، وبين حملات داخلية لإدانة بعض جماعات ذوى الفكر المتطرف دون غيرها وبين التصدى العسكرى لها بصورة ترفع من حدة الصدام وتختزله إلى صدام عسكرى لا فكري.
أحد بدائل غايات التصدى تتمثل فى عصرنة الفكر الدينى ليكون قادراً على التعايش مع التحولات والمتغيرات المعاصرة، وإن كانت الجهود الحقيقية فى هذا المجال شديدة الهامشية، وبعضها انقلب عكسياً إلى محاولات لأسلمة العلوم الطبيعية والعلوم والأنظمة المجتمعية (سياسياً واقتصادياً)، وبذلك تحولت غايات التجديد والتحديث إلى مزيد من تعميق الفكر الرجعى الماضوى الجامد.
وهناك مقصد بديل ثالث يتمثل فى توسيع القواسم المشتركة بين المذاهب والتيارات الإسلامية وتعميق التسامح فيما بينها وكذلك بينها وبين غيرها من الأديان وتخفيف الاستقطاب العدائى القائم بينها حالياً، وتكاد لا توجد جهود فى المنطقة العربية تتبنى هذا التوجه (بل يوجد عكسها)، رغم أن هذا المقصد مطلوب لتحقيق الوئام والتعايش العقيدى والسلام الاجتماعى فى مجتمع وعالم متنوع.
رابع هذه الغايات وأهمها تتمثل فى تنقية المفاهيم الدينية والاستلهام من قيمها ومضامينها لتكون روافع معنوية للنهضة والتقدم والحريات المسئولة والتضافر والإبداع المجتمعى، وهذا المقصد يعتبر غائباً فى المنطقة العربية، رغم أنه حقق نجاحاً عالياً فى مناطق أخرى من العالم مثل ماليزيا وإندونيسيا.
الجهود الحقيقية ل"عصرنة الفكر الدينى" شديدة الهامشية وبعضها انقلب عكسياً إلى محاولات لأسلمة العلوم الطبيعية والفكر الرجعى يتوافق مع أغلب النظم العربية من حيث التضييق على حرية الفكر والرأى وتقليص هامش المشاركة الديمقراطية
إشكالية الدين والدولة والسياسة:
منبع هذه الإشكاليات هو التداخل والازدواج بين هذه العناصر. وتعتبر هذه الإشكاليات أكثر وطأة فى المنطقة العربية، لأنها خضعت لنظم حكم استبدادية استمرت لقرون طويلة، استند الكثير منها (وما زال) إلى السلطة الدينية. وساعد على هذا أن نظام الدولة ونظم الحكم فى المنطقة العربية لم تتطور وتنضج على النحو الذى تطورت ونضجت به فى مناطق أخرى من العالم بما فى ذلك بعض الدول الإسلامية فى جنوب شرق آسيا. وفى المنطقة العربية كثيراً ما تتحايل النظم السياسية لتكسب لدعمها ولصفِّها تيارات سياسية دينية تكون لها أرضية جماهيرية واسعة لتعزيز قوة وسطوة هذه النظم، لينتهى الأمر بتعزيز وجود هذه التيارات. وكثير من النظم العربية تتقنع بالدين لتحقيق مكاسب سياسية وأهمها استمرارية هذه النظم (ملوك السعودية - مصر السادات - عراق صدام - ملوك المغرب). ويتوافق الفكر الدينى الرجعى من حيث المضمون مع أغلب النظم الحاكمة فى المنطقة العربية، من حيث التضييق على حرية الفكر والرأى وتقليص هامش المشاركة الديمقراطية. وبهذا يصبح مطلب تنوع الاجتهادات الدينية وتوجهها إلى توسيع دائرة الاختلاف الحميد فى الرأى والفكر الذى يستهدف إعلاء قيمة العقل وتوسيع المشاركة والحريات يتعارض ولا يتسق مع طبيعة الدولة والنظام السياسى. هذا فضلاً عن أن فكرة تداول السلطة تعتبر غائبة لدى أغلب الأنظمة العربية وأغلب التيارات الدينية الرجعية. ومن المفارقة أنه خلال العقود الأربعة الأخيرة اشتدت واحتدمت وتيرة الهجوم الشرس على العلمانية الديمقراطية من قبل كل التيارات الدينية، لأنها تعنى فى مضمونها تقليص نفوذ وسطوة المؤسسات والنخب الدينية ذات التوجهات الماضوية. وبذلك فإن تجديد وتحديث الفكر الدينى لا يمكن أن يقوم إلا فى ظل أنظمة سياسية وثقافة مجتمعية تقوم على حرية الفكر والرأى وعلى قبول الاختلاف والتعددية الفكرية والسياسية، لأن هذه العناصر تؤازر وتدعم هذا التجديد والتحديث.
إشكالية السياق الثقافى والمجتمعى الموجه له التجديد الدينى:
خلال عقود طويلة دخلت مفاهيم وتفسيرات وقصص ووقائع وأساطير مغلوطة على الفكر الإسلامى، حرفت مقاصده ومضامينه. وتحولت مصادر هذا التراث الفكرى فى قوة القناعة بها والتسليم بصحتها المطلقة إلى مصادر شبه مقدسة، يصاب من يتناولها بالتقييم أو التمحيص والنقد إعمالاً للعقل، بأعظم الشرور من قِبل الجمعات المتعصبة، ومن قِبل المؤسسات الدينية الرسمية التابعة للدولة والأهلية كذلك. ولم يخضع هذا التراث للمراجعة أو التنقية أو التصحيح النظامى الممنهج عبر تاريخه الطويل. من هذه العناصر التراثية كتب الأحاديث مثل صحيح البخارى، وصحيح مسلم، وكتب ابن تيمية وغيرها. من المفارقة أن الكُتاب المحدثين الذين اعتمدوا على هذه المصادر، لتقديم مناهج مستنبطة منها أو معتمدة عليها لم يتحقق التأثير إلا لهؤلاء الذين باشروا غلواً فى التعصب. أما الذين ناهضوا التعصب ونادوا بإعمال العقل ورفضوا التفسيرات المتطرفة وكانوا دعاة تنوير (مثل محمد عبده) فلم يمتد أو يستمر تأثيرهم. هذا ناهيك عما أصاب المجددين الناقدين للتراث الدينى من ويلات (معارك ضد حسين مثلاً)، وما أصاب المعاصرين منهم (فرج فودة) من شرور عظيمة انتهت بالتكفير والقتل. وقد كان للحركات والتيارات المجتمعية الجانحة للجمود والتطرف (مثل الحركة الوهابية وجماعة الإخوان المسلمين) أثر بالغ فى بروز حركات وتيارات إسلامية متشددة عديدة أخرى، كتنويعات من أصول واحدة. وكان لجمود وهشاشة النظم التعليمية السائدة فى كثير من الدول العربية، وتوجهها لتشكيل عقل غير ناقد وغير مبدع وغير مبادر، دور فى تهيئة المجتمع لتقبل الأفكار والتعاليم الدينية الجامدة وتقديس ما تقدمه التيارات الدينية الرجعية الجامدة. وباختصار وجدت هذه التيارات بيئة وثقافة وذهنية جاهزة لاستقبال والترحيب واعتناق ما تقدمه هذه التيارات دون نقد أو فحص أو تمحيص. وبذلك ساهمت الذهنية الهشة الخاوية السائدة فى المجتمع فى الانتشار والتغلغل السريع لهذه التيارات. فالقناعات والعقائد والمفاهيم السائدة فى قطاعات عريضة من المجتمعات العربية الإسلامية، بما تتضمنه من مفاهيم مغلوطة ومشوهة تُمثل فى وضعها الراهن تحدياً كبيراً لأى حركة تنوير وتنقية من الشوائب تحاول تغيير وتصحيح الجوانب الدينية من ثقافة المجتمع. ورغم أن مطلب التنوير والحاجة لتحرير الثقافة الدينية تمثل شقاً مهماً من عملية بناء مجتمع منتج ومنجز ومبدع تعيش شرائحه فى سلام ووئام مع بعضها البعض، وتوضع فيه الجوانب الدينية فى مكانها الصحيح لتقوم بأدوارها فى تحسين حياة الناس وضبط سلوكهم، إلا أن السياق المجتمعى والثقافى الحالى يمثل تحدياً شديد التعقيد والصعوبة. وتكمن الصعوبة ليس فقط فى تعارض النظم المجتمعية السائدة مع مطلب التنوير ذاته، بحكم أنها تمارس تضييقاً على العقل والحريات والإبداع الفردى والجماعى، وإنما لأن مهمة التنوير وتغيير الثقافة الدينية تتطلب قوى مجتمعية وأدوات للتغيير ومؤسسات تسعى لإحداث نقلة كبرى فى الثقافة العامة، ولا تقتصر فقط على الثقافة الدينية، لأن الأخيرة تتداخل مع الذهنية والقناعات والعقائد والقيم والتقاليد السائدة التى تشكل الثقافة العامة. فحركات التنوير التى نجحت فى إحداث نقلة كبرى وشاملة فى أوروبا فى القرون الأخيرة وأيضاً فى المجتمعات الإسلامية فى شرق آسيا امتدت لتشمل عناصر أخرى للثقافة المجتمعية مثل الحريات والمشاركة السياسية وتقدير والأخذ بما تقدمه مختلف العلوم والفنون الوضعية. وساهم تحرير العقل فى هذه المجتمعات فى تسريع التطور العلمى والمعرفى وفتح آفاق واسعة للتطور الاقتصادى والتقنى. كل هذه التغييرات تضافرت مع بعضها البعض مثل الأوانى المستطرقة، وساعد تشعبها وتضافرها على تسريعها واستقرارها لتصبح ثقافة مجتمعية عامة ونمط حياة. وتمثل الثقافة الدينية الشائعة المشبعة بالمضامين والقناعات المغلوطة والمحاطة بتدين شكلى وسطحى لدى أغلب شرائح المجتمع المصرى وكثير من المجتمعات العربية، والممزوجة كذلك بتراجع كبير فى أخلاقيات التعامل والقيم والسلوك والتعصب المستند فى أغلبه إلى الجهل أو سطحية الفهم للمضامين الدينية، أحد أهم مستهدفات التنوير أو تغيير الفكر الدينى. ويكمن التحدى هنا فى صعوبة المهمة، لأنها تتعلق بمفاهيم شائعة وراسخة ومسلّم بها إلى درجة القداسة لدى أغلب شرائح وطوائف المجتمع. ليس هذا فحسب، بل يعقد المهمة أكثر كون المؤسسات الدينية القائمة الحكومية وغير الحكومية كما الحال فى مصر تمثل معاقل لهذا الفكر السلفى والرجعى. ويضاعف التعقيد أضعافاً مضاعفة أن أغلب المؤسسات المجتمعية تدار بثقافات متوافقة مع الثقافة المجتمعية السائدة. فهذه المؤسسات لا تقوم على إعلاء العقل واحترام الحريات والأخذ بالنظم القائمة على المعارف العلمية والخبرات والنماذج المرجعية العالمية الحديثة ولا تشجع المشاركة والإبداع والابتكار، ولا تحسن من استخدام رأس المال الإنسانى المتاح لها، وإنما تكبته وتجمد وتحبط طاقاته ومواهبه وتستغله بصور شتى. ومن الغريب أن تجد مؤسسات تدار بهذه الموجّهات، وتجد القائمين عليها ممن يتقنعون بالطقوس والمظاهر والشعائر الدينية. ووصل الأمر إلى قيام جدل ومناظرات لمحاولة أسلمة النظم المجتمعية والمجالات المعرفية، مثل إسباغ صبغة دينية على الدولة (ضمن نصوص الدستور)، رغم أن الدولة مؤسسة وكيان اعتبارى وليس طبيعياً ليكون له عقيدة، ومثل استحداث ميادين معرفية وضعية ذات صبغة عقيدية مثل الاقتصاد الإسلامى. وقد شهدت القوى التنويرية فى مصر والحركات التى تعبر عنها عبر القرن الأخير وحتى الآن مقاومة شرسة من القوى الرجعية المتعصبة وصلت إلى حد العزل والتكفير والقتل أو محاولة القتل، ساعد عليها غياب مساندة وحماية الدولة. وتشهد وقائع عديدة على هذا، مثل توابع إصدار كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلى عبدالرازق، وكتاب فى الشعر الجاهلى لطه حسين، ورواية أولاد حارتنا والأعمال الأدبية لنجيب محفوظ، والأعمال النقدية للفكر الدينى الجامد لفرج فوده، وأعمال إسلام البحيرى فى هذا الخصوص.
مفاهيم وتفسيرات وقصص وأساطير مغلوطة دخلت على الفكر الإسلامى وحرَّفت مقاصده ومضامينه.. ومصادر التراث الفكرى أصبحت "شبه مقدسة" يصاب من يتناولها بالتقييم أو النقد إعمالاً للعقل بأعظم الشرور من قبَل الجماعات المتعصبة
إشكالية النظام التعليمى:
أسهمت نظم التعليم فى خلق ذهنية جامدة مهيَّأة للتعصب، حيث تعتمد أغلب نظم التعليم فى مصر والمنطقة العربية فى وضعها الراهن على برامج وممارسات تكرس الجمود والتعصب الذهنى ولا تحض على التفكير التحليلى المنطقى الناقد ولا على إعمال العقل. ولا يقتصر هذا على التعليم الأساسى وقبل الجامعى، وإنما يمتد ليشمل ميادين عديدة فى التعليم الجامعى. ويصل تخلف وجمود ورجعية هذه الأنظمة ذروته فى أنظمة التعليم الدينى فى كل مراحله. فهذه الأنظمة جميعها خاصة فى ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية تشكل عقلاً هشاً يرى الفكر من منظور أحادى مطلق لا يقبل التنوع والاختلاف ولا نسبية المعرفة. ولا تلعب المقررات الدينية أى دور فى البرامج الدراسية فى المدارس فى مجال تشكيل القيم الأخلاق القويمة، وإنما تقوم على حفظ واستظهار مضامين تكرس الشكليات والجمود والتعصب وتقدم فى سياق لا يتضمن حواراً أو مشاركة أو دوراً فاعلاً للمتعلم. وفضلاً عن هذا فهى تحتوى على ميراث مشوه ومغلوط من التعاليم والتاريخ والأحداث والوقائع المدسوسة والمقحمة على التراث الدينى. ومن الغريب أن مطالب ومبادرات إصلاح التعليم لا تتناول هذا الشق الذهنى والتربوى والقيمى. وزاد الأمر تعقيداً ما دخل من فساد تنوعت صوره وأشكاله على مؤسسات التعليم فى مصر وعدد من دول المنطقة العربية، بحيث أصبحت مؤسسات التعليم ساحة للإفساد وليس لتشكيل القيم والسلوكيات القويمة. وبهذا فقدت هذه المؤسسات دورها التربوى الإيجابى. ولأن التعليم يلعب دوراً خطيراً فى تشكيل العقل ومنهج التفكير وكذلك القيم والسلوكيات، فيحتاج الأمر إلى إيلاء اهتمام كبير لإصلاح المنظومة التعليمية فى الجوانب السابق ذكرها. ويحتاج إدخال هذا التحول إلى فلسفة جديدة للنظام التعليمى ككل بما فى ذلك التعليم الدينى، تقوم على فرز وتنقيع المضامين الدراسية وعلى تنمية الملكات التحليلية والنقدية للعقل من خلال مناهج وأساليب تعليم تقدم المعرفة فى كل ميادينها باعتبارها نسبية وقابلة للتمحيص والنقد والتعديل، ومن خلال دور فاعل وليس سلبياً للمتعلم، وتقوم أيضاً على قطع دابر الفساد فى مؤسسات التعليم بالتصدى لأسبابه ومنابعه. ويتطلب الأمر كذلك أن يعاد هيكلة مؤسسات وبرامج التعليم الدينى لإنتاج كوادر مستنيرة معاصرة منفتحة يمكن أن تشارك فى مسيرة التنوير المجتمعية وتجديد الفكر الدينى على أسس صحيحة ومعاصرة. أما المقررات الدينية التى تُقدم فى المدارس، فينبغى استبدالها بمضامين أخلاقية وقيمية وسلوكية، وذلك ضمن إحياء شامل للدور التربوى للمؤسسات التعليمية. ويتطلب كل هذا أن يجرى تحوُّل فى برامج تأهيل وإعداد المعلمين فى كل مستويات ومجالات التعليم ليستطيعوا تحقيق الفلسفة الجديدة للنظام التعليمى والقيام بالأدوار والأساليب المتضمنة فيما سبق. وليس التحول فى منظومة التعليم وفى الثقافة المؤسسية لوحداتها على النحو السابق بالأمر السهل، وإنما يحتاج إلى رؤية واضحة وجهود كبيرة ومتضافرة ومثابرة لمواجهة المقاومة التى ينتظر أن تكون عاتية وعنيدة، لأن جزءاً كبيراً من التحول المستهدف سيصطدم مع أوضاع راسخة ومصالح قائمة.
تجديد الفكر الدينى مطلب أساسى لنهضة المجتمع وتقدمه وتوسيع الحريات وتحقيق السلام بين شرائحه وقطاعاته
إشكالية مَن الذى يقود التنوير والتجديد الدينى؟
فى الوضع الراهن يتم التوجه للمؤسسات الدينية القائمة بمطلب تصحيح أوضاعها وأن تقود مبادرات لتصحيح وتجديد الفكر الدينى. هذا رغم أن هذه المؤسسات وعلى رأسها الأزهر ظلت لعقود طويلة وحتى الآن معقلاً للفكر السلفى الجامد. وليس من المنطقى أن يوكل إلى المؤسسات الدينية القائمة مهمة التجديد والتحديث فى ظل أوضاعها الراهنة. فلا يتصور أن تكون هذه المؤسسات (مثل الأزهر ودار الإفتاء والأوقاف) بأوضاعها الحالية وثقافتها وقياداتها القائمة وكوادرها وبرامجها مؤهلة أصلاً للقيام بهذه المهمة التى تتعارض مع الفكر السائد فيها ولدى القائمين عليها، وذلك لأن فاقد الشىء لا يعطيه. فضلاً عن أن مثل هذا المطلب يتعارض مع هويتها ووضعيتها ومصالحها. لا بد إذاً من الخروج من هذه الحلقة المغلقة والمفرغة. ويكون هذا بفك الحظر وإزالة القيود عن النخب المنادية بالتنوير والناقدة للفكر الدينى الرجعى الجامد والمغلوط السائد حالياً. فلا معنى فى ظل هذا أن تتهم النخب الداعية للتنوير بتهمة ازدراء الأديان. ولا بد أن يقوم النظام بمصالحة مع هذه النخب ودعم جهودها ومساندتها. ويتطلب الأمر أيضاً إنشاء كيان جديد مستقل ومدعوم سياسياً للتنوير وتجديد الخطاب الدينى، يشكل فى كل مستوياته من ذوى الفكر التنويرى ومن المجددين فى الفكر والتراث الدينى.
وتكون مهمة هذا الكيان:
(1) وضع خطة استراتيجية وسياسات عامة وبرامج تنفيذية للتنوير وتجديد الفكر الدينى والمضامين الثقافية المشتملة على هذا الفكر.
(2) فحص وفرز وتمحيص وغربلة الكتب والبرامج الدينية وتنقيتها مما أصابها من شوائب وتشويه عبر قرون طويلة.
(3) فرز وتطوير ما يقدم من برامج تعليمية ودعوية من خلال المؤسسات الدينية القائمة.
(4) القيام ببرامج للتنوير والتجدير الدينى فى الثقافة المجتمعية تصل إلى الأعماق والجذور المجتمعية.
التراث لم يخضع للمراجعة أو التنقية أو التصحيح النظامى الممنهج عبر تاريخه الطويل مثل صحيح البخارى ومسلم وكتب ابن تيمية وتحديث الفكر الدينى لا يمكن أن يقوم إلا فى ظل أنظمة سياسية وثقافة مجتمعية تقوم على حرية الفكر والتعددية الفكرية والسياسية
إشكالية منهج التنوير والتجديد:
لا يتحقق التنوير وتجديد الفكر الدينى ليكون قوة دافعة للنهضة والتقدم والسلام الاجتماعى، إلا بمنهجية نظامية ومقصودة، تتضافر فيها جهود مؤسسات الدولة مع نخب التنوير ومؤسسات المجتمع المدنى لإحداث التغيير الثقافى المقصود. وليست هذه بالمهمة اليسيرة، لأن التغيير الثقافى سيواجه بمقاومة عاتية عنيدة وشرسة من قِبل المؤسسات والنخب ذات المصلحة فى الثقافة الدينية الرجعية القائمة. هذا فضلاً عن أن تغيير ومفاهيم وقناعات الأغلبية التى تشبعت بهذه الثقافة الرجعية يحتاج إلى جهود كثيفة تخاطب وعى الناس وعلى جبهات مجتمعية ومؤسسية عديدة وتتصف بالتضافر والمثابرة والتصحيح الذاتى والاستمرارية. كما يحتاج الأمر أن تكون هذه الجهود متضافرة على مستوى أعلى وأشمل يستهدف توسيع الحريات وتنمية الثقافة القائمة على إعمال العقل والتنوع والتسامح وقبول الاختلاف، وكذلك الإبداع والتجديد والأخذ بمنهج العلم ونواتجه التى تسهم فى جودة حياة الناس.
وينبغى أن يستند منهج تغيير الثقافة المجتمعية إلى عدد من الأسس أهمها:
(1) ربط التغيير الثقافى بمستهدفات للتقدم والتنمية وتحسين جودة الحياة، مثل توسيع دائرة الحريات والمشاركة، والمساواة وتحقيق العدالة بين أفراد المجتمع بصرف النظر عن العقيدة والجنس والعمر، وضبط حجم الأسرة، وتمكين الأطراف المهمشة مثل الفقراء والنساء وذوى القدرات الضعيفة، وتنمية تذوق الفنون، وإيقاف الضغوط والقهر الذى تباشره بعض أطراف المجتمع على بعضه الآخر، وتشجيع المبادرات الثقافية والمجتمعية التى تدعم وتتضافر مع مسار التنوير والتجديد الثقافى والدين.
(2) التركيز على دور مؤسسات تشكيل الوعى مثل المؤسسات التعليمية والسياسية والإعلامية، لكى تباشر أدواراً تربوية تتسق مع مستهدفات واستراتيجيات التنوير والتجديد الثقافى والدينى.
(3) الاعتماد والتركيز وفتح منابر ومنافذ للتأثير للنخب والقيادات التنويرية فى الدوائر والمنافذ الثقافية، وتنمية دورها فى عمليات مراجعة وتنقية المضامين والبرامج التى تقدم من خلال المؤسسات الدينية (بعد مراجعتها وتنقيتها من خلال المؤسسة التنويرية الجديدة المقترحة فى الإشكالية السابقة) وكذلك التى تقدمها الجمعيات الأهلية ذات الصبغة الدينية بما فيها المؤسسات الإسلامية والمسيحية (بعد مراجعتها أيضاً من خلال المؤسسة التنويرية الجديدة).
(4) القيام بمراجعة شاملة لكتب التراث الدينى لتنقيتها من المفاهيم المغلوطة والمشوهة (من خلال المؤسسة التنويرية المقترحة)، وتشجيع الدولة ودعمها للمبادرات المحدثة لهذا التراث.
(5) الوصول والنفاذ إلى الدوائر التى تمثل أعماق المجتمع من خلال قوافل تنويرية تشرف عليها المؤسسة التنويرية الجديدة المقترحة تقوم على مشاركة من قِبل النخب والقيادات التنويرية التى يتم تكثيف إعدادها إعداداً نظامياً من خلال مراكز تدعمها الدولة ويشارك فيها المجتمع المدنى، وتقوم هذه القوافل بأنشطة متنوعة للتوعية وتقديم الاستشارة فى المسائل الدينية والحياتية التى تدعم مستهدفات التنوير والتجديد الدينى والثقافى.
(6) وضع ضوابط ومعايير لعمل برامج وأنشطة مؤسسات المجتمع المدنى ذات الصبغة الدينية والدعوية، لتصحيح توجه وممارسات هذه المؤسسات.
(7) إعادة هيكلة المؤسسات الرسمية المعنية بالدين والعقائد (مثل الأزهر ودار الإفتاء والأوقاف فى الجانب الإسلامى، وما يقابلها فى الجانب المسيحى حسبما يتطلب الأمر)، لضبط توجهها وسياساتها وبرامجها لتتسق وتتضافر مع التوجه الاستراتيجى للتنوير والتجديد الدينى، ويشمل هذا مراجعة وإعادة هيكلة المضامين التى تعتمد عليها هذه المؤسسات، والأدوار التى تقوم بها، والبرامج التى تقدمها، والقيادات القائمة عليها، والكوادر العاملة بها.
(8) قياس وتقييم التقدم المحرز على أرض الواقع من حيث الأثر والمردود والتغيّر الحادث فعلاً الناتج عن استراتيجية وبرامج ومبادرات التنوير والتجديد الدينى، ويتم هذا بصفة دورية وبصورة نظامية من خلال جهات محايدة مستقلة، وبناء على هذا القياس والتقييم يجرى تصحيح الجهود المبذولة، والتغلب على الصعاب والعقبات لاستكمال ودفع عملية التجديد والتغيير الثقافى إلى آفاق أوسع وأعمق لاستكمال مسيرتها واستدامتها.
ملاحظة أخيرة: سيكون شرطاً وعاملاً مساعداً ومسرعاً للتغيير المنشود أن يكون التجديد الثقافى والمؤسسى السابق الإشارة إليه جزءاً من نهضة فكرية وثقافية فى المجتمع تقوم على الارتقاء بالفكر، والاستناد إلى العلم، والارتقاء بالثقافة المجتمعية وضمنها إحياء القيم والأخلاقيات القويمة، والنهوض بالفنون والآداب، وتوسيع دائرة الحريات الفكرية والسياسية عامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.