برز التنوير كمصطلح فلسفي غربي معبر عن حركة اجتماعية ثقافية ، تدعو إلى استخدام العقل والمنطق في تفسير الأشياء، ورفض وصاية الكنيسة ورجال الدين على المجتمع الأوروبي. كما يعنى جعل الفكر متنوراً بما يضمن تحرير العقل من الوهم أو الاعتقاد الخاطئ، وتبين حقيقة الأمور. لذا لن تكتمل أى مناقشة وتناول لقضية تجديد الفكر عامة والدينى خاصة دون التطرق لقضية التنويرفى محاولة للإجابة عن سؤال مركزى عند حركات الإصلاح والتغيير «لماذا تخلف المسلمون والعرب وتقدم غيرهم؟». ومع ما نجابهه حاليا من صعود التيارات الشعبوية والأصولية وانتشار «الأخبار الزائفة» فى عصر «ما بعد الحقيقة» أصبح التنوير ضرورة ملحة. فى هذا الملف نستكشف لماذا أصبح التنوير ضرورة، انطلاقا من كونه ليس خطابا معرفيا أو تراكميا وحسب، إنما هو فعل من أفعال التطور الحتمي ،وكيف يعود الغرب حاليا لإعادة قراءة تراثه التنويرى فى محاولة لإحيائه لمواجهة التحديات الراهنة، رافعا شعار «التنوير الآن» تأكيدا على أن كل منجزات الحضارة الغربية لم تكن لتحدث دون قيم حركة التنوير. وفى المقابل نرصد فضل التنوير الإسلامى على الحضارة الغربية بشهادة علمائها تأكيدا على أن ادعاء افتقار الإسلام إلى التنوير ما هو إلا نتاج نظرة دونية للمسلمين وصورة نمطية أوروبية غير قابلة للصمود أمام الحقائق التاريخية التى أكدت أن التنوير حقبة عرفها العالم الإسلامى. ونحاول أيضا الإجابة عن سؤال الساعة «لماذا فشل التنوير العربي رغم بداياته المبشرة؟».
لماذا لا يزال التنوير مهما؟ كما كانت هناك مناوشات بين مؤيدى ومعارضى التنوير فىالعالم العربي، فقد كانت هناك أيضا حرب صغيرة استمرت لعدة عقود حول التنوير فى أوروبا فى القرن الثامن عشر. وبطبيعة الحال فى كل حرب كان هناك مؤيدون ومعارضون، فالمؤيدون يرون أن التنوير منح الحضارة الغربية العديد من القيم المقدرة مثل :حرية التعبير والتسامح وحقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية. بينما يرى المنتقدون أنه أيضا منحها الإمبريالية والعنصرية والفاشية، بالإضافة إلى شرور إيديولوجية السوق الحرة و «المحافظين الجدد». وبالرغم من فارق التقدم والنهضة فى الغرب عن الشرق، إلا أنه فى السنوات الأخيرة تصاعدت الدعوات فى الغرب من أجل الحاجة إلى التنوير من جديد فى ظل صعود الشعبوية والمعاناة مع الرأسمالية الجديدة.وبالنسبة لمعظم مفكرى الغرب كان الحل هو الاتجاه أيضا نحو الماضى من أجل إعادة قراءة وإحياء تراث مفكرى التنوير الأوروبى . يأتى كتاب «التنوير ولماذا لايزال يهم» لأنتونى باجدن ليكون على الجانب المؤيد للتنوير ردا على منتقديه ساعيا إلى إعادة بناء المشروع الأساسى للتنوير بهدف التحقق من إرثه. حيث يدفع بأهمية هذا الإرث الذى ورث للحداثة القيم المركزية للغرب. فهو لا يكتفى بتقديم سرد فكرى وتاريخى لإسهامات أشهر فلاسفة ومفكرى التنوير الأوروبى ولكنه يطرح فرضيات حول ماذا كان سيكون شكل الحضارة الغربية إذا لم يكن التنوير قد حدث، معتبرا أن النتيجة كانت ستكون مجتمعا متحجرا يفتقد للتفكير والإبداع، خاصة فى مجالات العلوم والفلسفة والدين، راسما صورة لثقافة خرافية انطوائية ، معتبرا أن هذا السيناريو غير المعقول هو ما حدث بالفعل فى العالم الإسلامى الذى لم يكن لديه تنوير مناسب يستطيع تطوير فكره وحضارته مما تسبب فى صعود الأصوليات الدينية واستقطابها لمئات التابعين بسهولة ، و أن أول مظاهر التدهور كان تحلل الامبراطورية العثمانية وتدهورها، وهو بذلك يتناسى ويتجاهل فضل التنوير الإسلامى على الغرب الذى اعترف به علماء ومفكرون كثر. يرفض باجدن انتقادات بعض النقاد المعاصرين حول افتراض أن التنوير كان يتمركز حول تفوق العقل الخالص، معتبرا أن ذلك يمثل تبسيطًا مفرطًا لمشروع أكثر دقة أولى اهتمامًا كبيرًا لمشاعر الإنسان وعواطفه مثلما فعل لعقله، لافتا إلى أن مفكرى القرن الثامن عشر قد أسسوا «علمًا إنسانيًا» جديدًا حول التعاطف والتواصل الاجتماعى حاولوا خلاله شرح شبكات الارتباط المعقدة التى تربط البشر ببعضهم بعضا ، وكيف تطورت مع مرور الوقت. ومن هنا نشأت الأنثروبولوجيا الحديثة. وفى نقاشه لآراء بعض المفكرين البارزين المتصادمة مع الدين؛ يعتبر باجدن أن الهدف الرئيسى لم يكن إلغاء الإيمان ، بل تأسيس عالم لا تكون فيه الشئون الإنسانية خاضعة مباشرة لأى سلطة دينية أو تقاليد، متبنيا رؤية إيمانويل كانط حول كون أحد أبرز أهداف التنوير هو التوقف عن أخذ كل الأمور كمسلمات على محمل الثقة ، وبدء التفكير بنفسك. وإعادة اكتشاف قدرات قلب الإنسان وعقله. لذلك يرى أن اتهامات «العقلانية العقائدية» خاطئة. وأن فكر التنوير لم يكن مضادًا للعقيدة ، بقدر ما كان يستخدم ذلك كسبب لاكتشاف حدود العقل نفسه، رافضا تقسيم خريطة مفكرى التنوير إلى كتل راديكالية ومحافظة. وفقًا لباجدن ، كان الإنجاز المهم للتنوير الاعتراف بأن الإنسانية لديها النضج والقدرة على تنظيم حياتها الأخلاقية دون اللجوء إلى الدين، لذا كان من السهل على الحضارة الغربية تدوير وتبنى قيم إنسانية عابرة للأديان والثقافات وتجاوز السياسة المحلية وحماية المصلحة الجماعية والاعتراف بإنسانيتنا المشتركة. يرى باجدن أنه لا يمكن المبالغة فى أهمية هذا التحول فى الفكر الإنسانى نحو «العالمية» باعتبارها الطريقة الوحيدة لإقناع البشر بأن يعيشوا فى وئام مع بعضهم بعضا. وإنها مرتبطة بشكل لا ينفصم ب« الرؤية الشمولية للتنوير» والعالم البشرى الذى أدى فى نهاية المطاف إلى تصور للحضارة التى يمكن فيها تطبيق قضايا العدالة والتمسك بها على المستوى العالمي. وهو ما يعتبره باجدن ردا على منتقدى مشروع التنوير فى تقليلهم من تأثيره والنظر له باعتباره حركة تعتمد على العقل الذاتى والعلم الموضوعي. وعلى عكس ذلك ، كان التنوير يدور حول التعاطف ، واختراع الحضارة ، والسعى وراء نظام إنسانى عالمي. يؤكد باجدن أنه من الخطأ قصر النظر للتنوير على اعتباره تحررا من سلطة الدين كما يراه البعض، مشيرا إلى أن الدساتير الأمريكية والثورية الفرنسية ، التى كُتبت فى أواخر القرن الثامن عشر ، هى وثائق مؤسِّسة للتنوير السياسي. لقد كانت الوثائق التأسيسية للديمقراطية الليبرالية ، التى لم يُمنح فيها الناس رأيًا فى حكومتهم فحسب ، بل تم ضمان حريات لا مثيل لها فى حياتهم الخاصة والعامة، وذلك برغم الإخفاقات التى مر بها الغرب مثل العنصرية والعبودية فى أمريكا والطبقية فى بريطانيا والتى قد لا تختلف كثيرا عما يعانيه العالم الآن فى ظل صعود التيارات الشعبوية واليمين المتطرف الأمر الذى يزيد الحاجة إلى موجة تنوير جديدة. يتفق معه ستيفن بينكر فى كتابه «التنوير الآن، دفاعاً عن المنطق والعلم والإنسانية والتقدم» حيث يرى أن التقدم الذى أحرز فى مطلع الألفية الجديدة هو استمرار لحركة التنوير الذى بدأ فى أواخر القرن الثامن عشر، وحقق تحسناً فى كل مقاييس ازدهار الإنسانية، مؤكدا أن المنطق والعقل والعلم والإنسانية والتقدم أصبحت مركز المسعى الفكرى فى أوروبا وأمريكا الشمالية. وأن هذا الإرث قد حانت لحظة استدعائه وإحيائه فى وقت من الاضطرابات السياسية ، وصعود الديماجوجية، والشك و «الأخبار الزائفة». ولكن هذه المبادئ التنويرية تواجهها أحيانًا تحديات تعوق أو تُبطئ مسيرتها، أهمها التضحية بالإنسانية فى سبيل مبادئ أو معتقدات عليا جذَّابة، أيًا كانت هذه المبادئ والمعتقدات. وفى حين أن العلم والتفكير القائمين على الأدلة لا ينتصران بالضرورة على اللاعقلانية والأيديولوجية. وإن القواعد والأخلاقيات الاجتماعية المشتركة هى الإطار الذى يسمح للعقل بالانتصار. فإن «التنوير الآن» يصبح فى النهاية رفضا مطولا لحجج اليأس من الأوضاع السياسية والاقتصادية كما يدافع بشكل أساسى عن العولمة ونمو اقتصادات السوق من خلال الادعاء بأنها حققت تقدما أكثر من أى قوة فى التاريخ. ويسلط بينكر الضوء على أهمية الأفكار فى التقدم البشرى، لكنه يدعى أن «المثقفين يكرهون التقدم» - وهو تعميم يتناقض مع حجته فى تبنى الأدلة والعقل. فهو يوفر أسبابًا غزيرة للتفاؤل وفق حساب علمى قائم على الأدلة ؛ ولكن هذا يقوضه اهتمامه الضئيل بالأدلة المتزايدة على المخاطر المستقبلية الجديدة. من خلال عدسات البيولوجيا التطورية والفيزياء وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ بالطبع. يستكشف بينكر الأخطاء التى يستخدمها نقاد المثل التقدمية ويقدم الرسوم البيانية والإحصاءات لإظهار أن قضايا مثل عدم المساواة فى الدخل والإرهاب والتعصب العنصرى ليست فى مستويات الأزمة التى يوحى بها الإعلام الهستيرى عادة. يجسد ببراعة الأساليب الخادعة للرافضين الذين تغير آراؤهم آراء الجمهور الأوسع . كما يستكشف كيف يستغل الخطاب السياسى التحيزات المعرفية ، مما يؤدى إلى تفاقم الاستقطاب والحزبية، وكيف أن الإنسانية أيديولوجية مفضلة . ويرى بينكر أن الأخبار السلبية هى أحد الأسباب التى تجعل الناس يستخفون باستمرار بالتقدم الذى تحرزه البشرية. ويقول إنه لكى نكتشف الحالة الحقيقية للعالم ، يجب أن نستخدم الأرقام وهو ما فعله فى كتابه الممتلئ بالإحصاءات والبيانات الكمية حول أوضاع الصحة والأمن والدخل والتعليم وحقوق الإنسان وغيرها، مقدما دليلا قويا للتفاؤل، كما يحرص على معالجة الانفصال بين التقدم الفعلى وفهمنا للتقدم. The Enlightenment: and Why It Still Matters. Anthony Pagden. Oxford University Press. 2013 Enlightenment Now: The Case for Reason, Science, Humanism and Progress. Steven Pinker. Viking.2018