على معظم سطوح العمارات السكنية الآن لايوجد إلّا "الكراكيب". لاتراها من مستوى الشارع، ولكن لو نظرت اليها من على سطح عمارة عالية وهى المتوفرة حاليا بكثرة تراها. وكان لتلك الأسطح فى التاريخ القريب استخدامات شغلت جزءً مهماً من حياتنا نحن القاهريين. كانت مزدهرة بالسكان المتنوعين وقد يكون بينهم بواب العمارة أو ساكن بسيط الحال أوصاحب محل مجاور كما تم ذكره فى قصة "عمارة يعقوبيان" للكاتب علاء الأسوانى، أو تحتوى على عشة فراخ يلتقى عندها الأحبة من الجيران، كما رأينا فى كثير من أفلام الستينات والسبعينات من القرن الماضى. وكان السطح يحتفظ بحدود من النظافة اللازمة للسكان. وكانت السطوح قبل ذلك مكانا تعقد فيه الاحتفالات سواء الفَرِحَة أو الحزينة، فكانت تُحوَّط بخيمة ذات سواتر وسقف، ويشترط فيها توفير الإضاءة الطبيعية المناسبة نهارا والتهوية الطبيعة أيضا طوال تواجدها، لها مدخلها ومخرجها القريب من السلم العمومى على سطوح العمارة. ولم يكن غريبا أن ترى من الشارع أن فوق السطوح سرادقا تنبعث منه الأضواء ليلا ويصل الى سمعك ترتيل القرآن الكريم ناشراً الأمان والبَرَكَة فى الفراغ حول العمارة السكنية يرتله شيخ بصوت جميل، أو أصوات السمر البهيج لإعلان مناسبة اجتماعية يفخر بها أحد السكان وسط الجيران. وفى غير وقت الاحتفالات يصعد اليها السكان طلبا للنسيم الطيب بعد العصارى ولجزء من الليل. وكمثال لتلك الأسطح للمبانى السكنية، كان فى شارع السيوفية فى حى الحلمية الجديدة بالقاهرة وهو امتداد لشارع المعز لدين الله الذى يربطها بمدينة الفسطاط القديمة ، وهى حاليا مدينة مهجورة بها بقايا لثمانية بيوت بأفنيتها وفساقيها منذ نشأتها فى أول دخول الإسلام فى مصر عام 641 ميلادية والتى ظهر للأسف عنها كلام أنها ستتحول الى حديقة عامة أقول فى شارع السيوفية يوجد ما يسمى ربع قِزْلار وهو مبنى قديم عبارة عن مجموعة محلات تجارية فى مستوى الشارع فوقها فى الدور الأول عشرة مساكن لعشرة عائلات على صف واحد، وكل سكن مكون من دورين دوبلكس فى الدور الأول غرفة معيشة بمطبخ وفوقها غرفة النوم تطل عليها وبها حمام. ومن غرفة النوم يصعد سلم يفتح من طاقة فى السقف الى سطح السكن. وذلك السطح يتجاور مع سطح السكن بجانبه وهكذا للعشرة مساكن المتجاورة، وبين كل مسكن والآخر سور يمكن تخطيه. وذلك يعنى أن سكان ذلك الربع أمكنهم أن يتواجدوا على أسطح مساكنهم فى تجمُّع معروف المسطح الخاص بكل منهم، ولكنهم متجاورين. وتتشابك العلاقات الاجتماعية فى تآلفٍ طالما أن كل عائلة لها مساحتها الخاصة. كان ذلك هو المجتمع فى القاهرة. الجيرة هامة فى الحياة اليومية ولها أحكام اجتماعية تضبط الإيقاع الاجتماعى ومسافاته وتحافظ عليه. وأتذكّر عن طفولتى المبكرة كم كانت عائلتنا تتحوقل حول صينية العشاء فوق سطح بيتنا، وكان بيتا فى أحد أحياء القاهرة التقليدية، ويتخلل وقت الطعام وقت آخر نتبادل فيه الكلمات والحكايات ونتعرف على خبرات الأهل مع الأخرين وحدود التعاملات وأخبار المجتمع خارج المنزل وفى العمل كل بفكره، وتتصدر انطباعاتنا عن افعالنا وافعال الآخرين بعد كل حكاية وكل خبر. نجتمع على السطح معظم ليالى الصيف بدءً بالمساء لتستمر بعضا من الليل، وتتأكد فى تلك الأمسيات لحظات السمر مع الترابطات الأسرية من خلال توافقات الكبار وإنصات الصغار مثلى على مجريات الأحداث الهامة للأسرة ومحيطها المجتمعى وردود الأفعال مقابل الأفعال. من دراساتى فى معهد البيئة تفرَّعْتُ فى القراءة كثيرا، وذهب بى الفضول إلى أحد فروع العلم وهو الإيكولوجيا ومنه تفرعت وفروعه كثيرة الى إيكولوجيا العمران والإيكولوجيا الإنسانية . وعرفت أن أهم عنصر فى المجتمع أن تتكامل فيه العلوم البيئية وتتقابل فى تقنين أساسيات الحياة فى العمران. وعرفت أن فكرة الناس عن مجتمعهم لاتنبع فقط من حيث المكان ولكن أيضا من العلاقات الذهنية والعاطفية للإنسان، وبالتالى فإن المجتمع هو نتاج التواجد فى الموقع الجغرافى وتاريخه، وسلوكيات أعضائه مع اسلوب حياة إيجابى، ونشاط إنسانى متعدد يسعد به المجتمع ومتفق عليه جموعيا. وغاية حديثى أن أؤكد على أن الشبكة الاجتماعية هى الأساس فى تكوين المجتمع الحضرى ، أوالريفى ، وعلى أساسة تتشكل الشبكة العمرانية فى فراغاتها ومبانيها، وأتصور أن الابتعاد عن الرموز المعمارية التى تشكّلت بترابط العلاقات الاجتماعية بين أعضاء المجتمع قد يتسبب فى انفراط تلك العلاقات الاجتماعية ان لم نبتدع أشكالا أخرى من الأماكن المشيدة التى تجذب الناس اليها ويتقابلوا فيها ويشكلوا روابط لازمة لاستمرار نوعية وجودة الحياة فيها.