(1) فى نهاية الستينات من القرن الماضى كان لى صديق احتل مكانة كبيرة فى قلبى لما كان يتمتع به من علم وخلق.. لا أدرى أين هو الآن، وهل لا يزال حياً أم جرى عليه قضاء الله؟ فسواء كان هذا أو ذاك، أسأل الله تعالى أن يجازيه خيراً، وأن يجمعنا به فى مستقر رحمته.. كان لا يزال طالباً بكلية الشريعة والقانون، لكنه كان من هؤلاء الطلاب النابهين.. كنا نتحدث يوماً عن الدعوة والدعاة آنذاك، حيث كان الشباب مندفعاً، فقال لى: اسمع يا أخ محمد.. صحيح أن هذا الدين ليس حكراً على أحد، لكنه ليس نهباً لكل أحد.. ظلت هذه العبارة فى ذاكرتى حتى اليوم.. أحياناً تغوص فى أعماق الذاكرة، وأحياناً أخرى تطفو أو يتم استدعاؤها رغماً عنى، خاصة ونحن نواجه نوعية من «الدعاة» نصيبها من العلم متواضع، كما أن حظها من الخلق متدهور.. إن الدعوة إلى الله منهج له قواعد وأصول، كما أنها علم وفقه، يستلزم دراسة على أيدى علماء متخصصين.. التخصص مطلوب حتى يتحقق الإتقان والإبداع المأمول.. هذا هو دور الأزهر، قبلة العلم فى العالم العربى والإسلامى.. ويبدو أن أهله غير مدركين لتلك المكانة السامقة.. صحيح أنه تعرض فى مراحل مختلفة من تاريخه إلى حرب شرسة وضروس، لكنه صمد أمامها واستطاع أن يحتفظ بأصوله وجوهره، وبقى أن يسترد مكانته ويستعيد عافيته، فهو الحامل للواء الوسطية الإسلامية، والقادر على أن يفى بحاجة المسلمين فى شتى البقاع من حيث علوم العقيدة والشريعة، والتعرف على الحلال والحرام، وفيما يرقى بقيمهم وإيمانهم وأخلاقهم.. وبالتالى صار واجباً على المسلمين -حكاماً ومحكومين- أن يعملوا على النهوض بالأزهر، رجالاً ومناهج، وأن يوفروا له كافة الإمكانات -المادية والمعنوية- حتى يتمكن من القيام بدوره كمؤسسة عريقة لها مكانتها ومنزلتها فى قلوب وعقول المسلمين، وكى نستطيع القضاء على تلك العشوائية التى شوهت ومسخت أفكار الناس وعقولهم عن الإسلام، وما نتج عن ذلك من تكفير وشطط وغلو، أدى إلى ما نراه من عنف وتخريب وتدمير وإرهاب. (2) من المعلوم بداهة، أنه ليس كل من حفظ آية من كتاب الله، أو حديثاً للرسول (صلى الله عليه وسلم) صار داعية، وله أن يعتلى المنابر ويخطب فى الناس كيفما يريد.. هناك علوم كثيرة لا بد من دراستها والإحاطة بها كى يصير الإنسان داعية، منها علوم العربية من حيث أساليبها وقواعدها ونحوها وصرفها وبلاغتها.. هناك علوم القرآن، من حيث العام والخاص، والمحكم والمتشابه، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وهكذا.. هناك أيضاً علوم الحديث، من حيث الإسناد والمتون، وأحاديث الآحاد، والمتواتر، والصحيح، والحسن، والضعيف، والمرفوع، والموقوف، وهكذا.. هناك أيضاً علم أصول الفقه، وفقه السيرة، والتفسير بكافة أطيافه، وهكذا.. ناهيك عن فقه الواقع، والأولويات، والتوازنات، والمآلات، وما إلى غير ذلك.. إن الحلال والحرام هو ما أحله وحرمه الله ورسوله، وليس لأحد -كائناً من كان- أن يحل أو يحرم ما لم يحله أو يحرمه الله.. يقول تعالى: «ولا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون» (النحل: 116). (3) إن الداعية إلى الله فى أمس الحاجة إلى الصدق والإخلاص والتجرد، وعندما يكون كذلك يجرى الله الحق على لسانه، ويشرح به الصدور، ويفتح له مغاليق القلوب.. بالصدق والإخلاص والتجرد يكون عمل الداعية متقبلاً عند الله.. وهذه كلها من أعمال القلوب.. وهى ما نعبر عنها بالنية، التى هى أساس كل عمل.. لذا، جاء فى الحديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».. ولأن النية محلها القلب، ولا يطلع عليها إلا علام الغيوب، فقد يعمل أحدنا عملاً يظنه الآخرون متقبلاً، وهو ليس كذلك.. من هنا لا بد أن يراقب كل منا قلبه، وهل قصد بعمله وجه الله تعالى أم لا؟! وهكذا فى كل أموره.. لقد بشر النبى (صلى الله عليه وسلم) أناساً بأنهم «أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة» رغم أنهم يقومون بأجلّ الأعمال، هى الجهاد وتعليم الناس والإنفاق، بسبب أنهم أرادوا من ورائها الدنيا والنصيب.. لذا قيل: «نية المرء خير من عمله». (4) إن ممارسة الدعوة قد لا تحتاج إلى اعتلاء منبر أو كرسى محاضرة، فأن يتقن الإنسان عمله هو دعوة إلى الله.. فى الحديث: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه».. وفى رواية «أن يتمه».. فأن يكون مدرساً، وجب عليه أن يتقن مهنته، بالتحضير الجيد للدرس الذى سوف يلقيه، وما يحتاجه ذلك من عناصر وإعداد لوسائل الإيضاح، وهكذا.. واذا كان تاجراً، فعليه أن يكون صادقاً، وألا يغش، أو يطفف الكيل.. وعندما يفى الإنسان بوعوده هو دعوة إلى الله.. وأن يكون صادقاً فى حديثه هى دعوة إلى الله.. وأن يكون حليماً، متسامحاً، رؤوفاً، رحيماً، هيناً، ليناً هى دعوة إلى الله.. عندما سئلت السيدة عائشة (رضى الله عنها) عن خلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ قالت: «كان خلقه القرآن».. تخيل معى أخى القارئ كيف يمكن أن يكون هناك داعية إلى الله وهو لا يلتزم بعمله الذى يرتزق منه، أو يكذب، أو يغش، أو يراوغ، أو يخلف وعده، أو يكون شتاماً أو سباباً أو بذيئاً.. إلخ؟! هل تجد لمثل هذا الداعية أثراً؟! لا أعتقد.