يبقى الناس مستمعين مستمتعين بخطب ودروس الوعاظ والدعاة مادامت مقتصرة على الرقائق كالتذكير بالآخرة والترغيب فى الجنة والتخويف من النار، وهم يجلسون مطمئنين يحركون رءوسهم تأثرا وربما طفرت من أعينهم العبرات، ثم تنتهى الخطبة أو الدرس فيمضى كل إلى غايته حتى الموعد التالى الذى يمثل لهم نزهة روحية وفرصة للسمو النفسى بعيدا عن متاعب الحياة، وقد يبدأ بعضهم بالتململ إذا ما اقترح الداعية برنامجا للعمل ينقل الناس من مجرد مستمعين إلى مطبقين للعبادات كالصلاة والصيام والزكاة فيتفلتون تباعا ويصمد من سكن فى قلبه إيمان ينقله من متبطل ساكن إلى فاعل متحرك، فإذا انتقل الداعية من النزهة فى بستان العبادات إلى الحرث فى حقل العادات الاجتماعية المتأصلة كتلك المتعلقة بضوابط الاختلاط أو الملبس أو الإقلاع عن بعض العادات الضارة التى تناقض نظافة الإسلام وسموه زاد التفلت وقل عدد الصامدين، فإذا ما صارحهم الداعية بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية على كل مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء المتعلقة بالفرد أو بالجماعة وأن هذا التطبيق الشامل ليس أمرا اختياريا أو انتقائيا إنما هو الجوهر الحقيقى لشهادة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فلا يقوم الإسلام إلا به وتظل الجاهلية جاثمة أو تعود لترخى سدولها بدونه ولو رفع الناس شعارات الإسلام عالية وذلك مصداقا لقول الله سبحانه: (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) ولقوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)، حينها تكون الطامة الكبرى. لذا فإن أكثر الدعاة يتجمد عند مرحلة أو أخرى من مراحل الدعوة لا يجاوزها ضنا بمكانته عند الناس أن تتزعزع وإشفاقا من أن يفقد أتباعه أو أن تتعرض له السلطة المستفيدة من نظم الجاهلية بسوء، يستوى فى ذلك من تضخمت ذاته فغلبت مراقبته لها على مراقبته لربه أو من غلب خوفه من الناس توكله على مولاه سبحانه وتعالى أو من زين له الخوف والطمع تزييف الحقائق والكذب على نفسه ثم على الناس بادعاء التيسير عليهم لاجتذابهم ثم لا يتحرك بعد ذلك قيد أنملة وإنما يمضى فى طريقه مطمئنا إلى التفاف الناس حوله ثم إلى ترحيب أعداء الدين بمنهجه حتى يصبح نجما يشار له بالبنان ثم ينعم برفاهية تلهيه وتنسيه الحقيقة الأزلية الثابتة فى كتاب الله من أن كثرة الأتباع لا تعنى أبدا صحة المنهج (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) ومن أن أنبياء الله الذين جاءوا أقوامهم بالحق لا شبهة فيه لم يُقابلوا بترحاب ولابكثرة أتباع ولا بطرق مفروشة بالورد، وإنما بالتكذيب وبالقتل وبالتشريد (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) وأن سنة الله الماضية فى خلقه أن يكذّب الناس رسل الحق ويؤذوهم (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين) فيصبروا ويصابروا حتى ينتصروا بعد عناء شديد (ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ماكُذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) لذلك أمر الرب تبارك اسمه رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذرع بالصبر لأن الدعوة إلى الله ليست عملا سهلا قريب الثمرات وإنما هى حرث شاق فى نفوس صحرتها الأهواء وقزمت أشواقها تطلعات صغيرة إلى مكاسب دنيوية تافهة (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل). ينتقل هؤلاء الدعاة النجوم خوفا من الناس وطمعا فى عطائهم المادى أو المعنوى من خانة العلماء إلى خانة خبراء التنمية البشرية إذا ما ظهروا فى مجتمعات قد استقر فيها الإسلام وحُكم فيها بشرع الله، أو إلى خانة المزورين لحقائق الدين إذا ما وُجدوا فى مجتمعات لم تخرج بعد من جاهليتها إلى الإسلام أو ارتدت إلى الجاهلية كما حدث فى الغالبية العظمى من المجتمع البربرى خصوصا قبائل صنهاجة عندما وصلها الشيخ عبد الله بن ياسين، ولقد من الله سبحانه على الشيخ الداعية بتلك الكاريزما التى مكنته من حشد الأنصار فى وقت قصير، فقد كان خطيبا مفوها عالما جذابا حلو المعشر والحديث وقد استخدم فى دعوته اللغتين العربية والأمازيغية معا فى مهارة تتيح لمختلف الطبقات الثقافية أن تتفاعل معه فالتف حوله أفراد قبيلتى جدالة ولمتونة وذاع صيته بين القبائل الصنهاجية الأخرى حتى توافد لسماعه طلاب العلم من كل مكان، ولقد كان فى مقدور ابن ياسين أن يتجمد عند مرحلة من الدعوة لاتصطدم بالأعراف ولا بالنظم الاجتماعية والاقتصادية السائدة مما يتيح له استمرار هذا التواصل حتى يصبح نجما لامعا فى سماء صنهاجة ويهنأ بمكانة راقية فى المجتمع يتيحها له التفاف الجمهور حول فقيه المالكية الأمازيغى وهى المكانة التى وضعته وقتها فوق أمراء القبائل، وقد كان فى مقدوره أن يخدع نفسه بأن هذا هو غاية ما يمكن أن يصل إليه مع هؤلاء البربر الخارجين عن ملة الإسلام وأنه يكفيه فخرا أن جعلهم يؤدون الصلاة فى أوقاتها الصحيحة ويصومون رمضان ويكتفون بأربع زوجات ويحرمون بعض الحرام ويحلون بعض الحلال فى صيغة توافقية ترضى الجميع ولا تجعله يخسر مكانته أويصطدم بهم منذ بداية الطريق، أفتراه فعل؟ لا! فمن كان له من قوة الإيمان ومتانة العلم وصدق الإخلاص وعلو الهمة وتوحيد الخوف والرجاء مثل ما لابن ياسين لا يمكن أن يُتصور منه أن يزيف على الناس حقيقة دينهم وأن يرضى منهم بما لم يرض به الله ورسوله، وإنما هو الدخول فى الإسلام كله أو نقضه كله فلا انتقاء ولاتزييف ولا خلط بين دين الله وأديان البشر (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان)، هؤلاء هم العلماء الحقيقيون الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (العلماء ورثة الأنبياء) فهى وراثة الدعوة والمنهج والمعاناة حتى يكون الدين كله لله، لذا فما أن أدرك أن القوم يرفضون تطبيق أحكام الشريعة حتى واجههم بصراحة وبحزم وبعنف أيضا.