فى وسط حالة التراجع العام فى الفكر الدينى والرياضة والفن، نجد السينما فى حالة يُرثى لها، من حيث ضآلة عدد الأفلام المنتجة، ومن حيث القيمة الفنية والإبداعية المتدنية للأفلام القليلة التى يتم إنتاجها، فهى إما «قص ولزق» من أفلام أجنبية مثل ذلك الفيلم الذى أثيرت حوله ضجة مؤخراً والمأخوذ من فيلم «مالينا» الإيطالى، وإما معبرة عن «الثقافة دون الشعبية»، التى صارت لها السيادة، وإما تلخيص وتكثيف لمشاهد «الملاهى الليلية»، لكن فى ثوب سينمائى! والغريب أن أمثال هذه العقليات تتحدث عن حرية الإبداع، وهى ليس لها منه أى نصيب، والإبداع لم يطرق بابها يوماً، بل لم تحاول أن تغازله فى لحظة ما؛ والأغرب أن أصحابها يتشدّقون بالإبداع وهم عاجزون عن المنافسة فى أى مهرجان دولى، مثلما تعجز الفرق الرياضية عن شرف التنافس على كأس العالم أو الأولمبياد. نحن لدينا فقط ظواهر صوتية تفوز بجدارة فى «مَكلمات» البرامج الفنية والرياضية، وهى نفسها حالة الإخوة الأعداء فى المشهد السياسى الذين يجيدون التشاجر حول مصير الشعوب ولا يجيدون إدارة مصنع أو وزارة! ويكفى المنتجين الدخلاء الذين ليس لهم رسالة إلا رسالة المال، مغازلة الشباك عن طريق مغازلة الغرائز، لا كتعبير فنى عن حالة إنسانية، وإنما كوسيلة رخيصة للاستيلاء على بضعة قروش من جيوب شباب عاطل -بحكم الظروف القاهرة- عن العمل وعاطل عن الزواج وعاطل عن الإبداع الفنى أو السياسى أو الرياضى. وانطلاقاً من الأثر الضخم للفن عموماً نشأت إشكالية العلاقة بين الفن والأخلاق. كان أفلاطون أكثر الفلاسفة نقداً للشعراء والفنانين بوجه عام. فلقد ذهب إلى أن جميع الشعراء الكبار من شعراء الملاحم والشعراء الغنائيين لا يكتبون قصائدهم الجميلة بالفن، بل بالهيام والهوس؛ فعندما يكتب الشعراء الغنائيون أنغامهم الجميلة فهم عند أفلاطون أشبه ما يكونون بالمعربدين الذين يفقدون عقولهم! والهَيام الوحيد الذى أقرَّه أفلاطون كان هيام العقل فى حالة صفائه، مستقلاً عن الشعور. وعلى ذلك -من وجهة نظره- فإن أى هيام آخر مبنى على التضليل والخداع؛ ولذلك لم تتفق فكرة الإلهام أو الوحى فى الشعر مع فلسفته المثالية، ولم تتفق تعاليم الشعراء مع منظومة القيم الأخلاقية التى سعى إليها فى مذهبه الفلسفى. وعبّرت نظرية أفلاطون الشهيرة فى «عالم المثل» عن ذلك الموقف الذى اتخذه من الفن والفنانين. حيث إن نظريته فى «المثل» تعتبر الأشياء الخارجية الموجودة فى العالم المحسوس لا حقيقة لها، وإنما هى مجرد تقليد لعالم المثل الحقيقى؛ ومن ثم فإن الصورة التى يرسمها المصور أو الشاعر ما هى إلا تقليد لعالم الأشياء المزيف، وليس لعالم المثل الحقيقى؛ أى أنها «تقليد للتقليد» (مثل أفلامنا التى لا تقلد الحياة المعيشة، بل تقلد الأفلام الأجنبية التى تعكس حياة أخرى غير حياتنا)؛ ومن ثم فلا حاجة لها. وهكذا نجد -وهو أمر لافت للنظر- أن رؤية فيلسوف فى حجم أفلاطون أكثر تشدداً من رؤية المتشددين فى الدين! وهكذا نجد أنفسنا أيضاً بين نقيضين كليهما مرفوض: فن رخيص مبتذل، وفلسفة تأخذ موقفاً متطرفاً فى الإنكار. لكن هناك وجهة نظر أخرى طرحها الشاعر والكاتب الإنجليزى جون راسكن (1819 - 1900)، وهو أحد القائلين بالمعايير الخلقية فى العصر الفيكتورى والعصر الإدواردى. فعلى الرغم من موقفه المتمسك بالمعايير الخلقية، فقد ذهب إلى نتائج مناقضة لموقف أفلاطون؛ وإذا كان أفلاطون قد استنتج أن الفنون بطبيعتها تتعارض مع الأخلاق؛ فإن راسكن وجد أنها بطبيعتها الأصلية تتفق مع الأخلاق فباركها. وذم أفلاطون الفنون؛ لأنها لا أخلاقية، وامتدحها راسكن؛ لأنها أخلاقية إلى حد كبير. وإذا كان أفلاطون حل إشكالية العلاقة بين الفن والأخلاق برفض الفن؛ لأن الفن لا أخلاقى، فإن جون راسكن رفع من قيمة الفن غير المتعارض مع الأخلاق، ونظر إلى الأخلاق بوصفها معياراً من المعايير الأساسية التى تُثمن على أساسها الفنون؛ فكل ما هو فن يعد -حسب تصوره- من أصل قدسى، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث يرى أن تذوق الجمال ينشأ من الشعور بالاحترام والعرفان بالجميل والسرور النابع من إدراك صنعة الخالق فى الطبيعة. وامتداداً لهذا الاتجاه كان طبيعياً أن يذهب تولوستوى إلى أن الفن يجب ألا يتعارض مع الدين. ومن المنطلق نفسه يقول على عزت بيجوفيتش فى كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب): «الفن رسالة مقدسة». ومن ثم -من وجهة نظرى- نجد أن رأى التيارات التى تطالب الفن عموماً والسينما خصوصاً بعدم تجاوز «السقف الأخلاقى» للمجتمع ليست بدعاً ولا ابتداعاً ولا تطرفاً! فهى متوافقة مع رأى مجموعة من كبار الأدباء والفنانين والفلاسفة الغربيين، بل أفضل وأعدل بمراحل من الموقف المتطرف الذى اتخذه أفلاطون الفيلسوف اليونانى الكبير!