دعا محمد عبدالمقصود إلى الامتناع عن دفع مستحقات الدولة، وهى دعوة تبنتها حركات سياسية أيام حكم الإخوان، الفرق هنا فى شرعنة الجريمة بنسبتها إلى الله ورسوله، نهتم هنا بالرد ليس اعتناء بالقائل وإنما تنزيهاً للشريعة من هذا العبث. ونكمل: هل يجوز الامتناع عن دفع المستحقات باعتبار أن صحة الغاية لا يلزم منه صحة الوسيلة؟ قال الفقهاء: هذا متوقف على ألا يكون ضرر الوسيلة المحرمة التى توصِّل إلى تلك الغاية المشروعة أقل من مصلحة الغاية المتحققة بها لا أكثر ولا مساوياً. وهذا قيد غير متحقق، فمن يقول من العقلاء إن هدم اقتصاد مصر أقل مفسدة من زوال النظام القائم؟ بل إن الجوامع الوطنية القليلة التى التقت عليها أطياف العمل الوطنى أكدت على وجوب المحافظة على (الدولة). أيضاً لقاعدة «الضرر لا يُزال بمثله ولا بأكبر منه»، فلو أن واحداً سرق حبلاً وربط به سفينة له فى البحر، فلا يقال إن هذا ضرر على صاحب الحبل فيجب نزعه حتى لو غرقت السفينة، لأن سرقة الحبل ضرر وإزالته على تلك الحال ضرر أكبر، وقد رأينا شعوباً تعيش فى ظل أنظمة مستبدة دهوراً، ولكن لم نرَ شعوباً بلا دولة. هناك أيضاً قاعدة «تفويت ما لا يُدرَك بتحصيل ما يُدرَك»، والمقصود أن انهيار مقدرات الدولة مفسدة لا تُدرك (الصومال والعراق وسوريا مثالاً)، ووضع خريطة طريق جديدة دون الرجوع إلى الشعب (عند من يرى أن ما حدث انقلاب وليس ثورة) مفسدة يمكن أن تُدرك بمعارضة سلمية أو تفاوض توافقى أو... إلخ، أما سقوط الدولة فلا يُدرك. أيضاً قد يقول شخص أنا سأدفع هذه الرسوم بعد زوال السلطة، وهو كلام يمثل رشوة ضمير، ويفتح الباب لفتنة كبيرة، فإذا جاء الحكم للذين يريدونه سيأتى المعارضون -خاصة أن المجتمع منقسم- ويمتنعون عن دفع مستحقات الدولة، ويرددون نفس كلام المعارضين الآن، وتظل مصر مَلْعَبة فى أيدى الخصوم، فإذا رضوا دفعوا وإذا سخطوا إذا هم يمتنعون، كما أن التأخير سيترتب عليه تعلق الذمة، والأعمار بيدى الله. هنا ملاحظتان: 1- أن الجماعات التكفيرية نفسها لا تجيز الامتناع عن دفع مستحقات الدولة مع تكفيرها للأنظمة، ففى سؤال فى موقع التوحيد والجهاد المتشدد: هل يجوز عدم دفع الفواتير والخدمات الأخرى للطواغيت؟ فكانت الإجابة: لا يجوز، لأن تولى المرتدين أمر الدولة لا يبرر سرقتها أو التهرب من أدائها. 2- دعانى لنقل خلاصة بحث فضيلة الدكتور عثمان عبدالرحيم أنه لما نشر تأصيلاً شرعياً مفصلاً ومحكماً للموضوع، ولما أفتت دار الإفتاء منذ أيام بحرمة الاستفادة من التيار الكهربائى بالطرق غير المشروعة - جاءت التعليقات: أتغضبون من عدم دفع الفواتير ولا تغضبون من قتل الآلاف فى «رابعة»؟ وأين التأصيل الشرعى لقتل الساجدين؟ وهكذا يأخذك المراوغون بعيداً عن صلب الموضوع. وقد كررنا فى المقالات السابقة مراراً أن هناك فرقاً شديداً بين أن تفعل الجريمة وتسكت وبين أن تفعلها وتنسبها إلى الله ورسوله، كما أنه لا يصح أن تأتى البذاءات والمحرمات فإن عارضك أحد قلت له: أين أنت من مذبحة «رابعة»؟ لتصير دماء «رابعة» ملهمة للبذاءات والفحش بدلاً من أن تكون ملهمة لقيم اليوم الآخر، وهو ما سنشرحه فى المقال المقبل.