دعا محمد عبدالمقصود إلى حرق بيوت وسيارات أهالى الجيش والشرطة، والامتناع عن دفع مستحقات الدولة، والدعوة الأخيرة كانت لطوائف سياسية أيام حكم الإخوان، الفرق بينهم فى شرعنة الجريمة، إذ إن الدعوة هنا ارتدت ثوب الدين، ولبست عباءة الإسلام، نهتم هنا بالرد، ليس اعتناءً بالقائل، وإنما تنزيهاً للشريعة من أن تتحول نصوصها من (هداية الخلائق) إلى (هدم المجتمعات) من خلال لَىّ أعناق النصوص، بتفسير جهول، ينشر الظلمة لا النور، والهدم لا البناء. ونكمل ما وقفنا عنده بالقول إنه لا يجوز الامتناع عن دفع مستحقات الدولة (إلا فى حالة العجز)، لأسباب بعضها يعود إلى المال نفسه، وبعضها يعود إلى قواعد الشريعة، كما يقول الفقيه الدكتور عثمان عبدالرحيم: أما الأسباب التى تعود إلى المال، فمنها: 1 - لأنه استيلاء على هذا المال بغير حق، لأن هذا المال تعود ملكيته، كما ذكرنا فى المقال قبل السابق، إلى الدولة، وهى شخصية مستقلة لها ذمتها المالية الخاصة، ومن ثم فالامتناع يكون بمثابة أخذ مال بغير وجه حق، ولهذا كان يتورع سلفنا الصالح عن التورّط فى مال المسلمين، فهذا عمر بن عبدالعزيز جاءه أحد الولاة يحدثه عن أمور المسلمين، وكانا يستضيئان بشمعة، فلما انتهى الوالى من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله قام عمر فأطفأ الشمعة، فتعجب الوالى وقال: يا أمير المؤمنين لم أطفأت الشمعة؟ فقال عمر: كنت تسألنى عن أحوال المسلمين وكنت أستضىء بنورهم، وأما الآن فتسألنى عن حالى، فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين. 2 - ولأن الامتناع خيانة للعقد المبرم مع الدولة، وواجب المسلم أن يؤدى الأمانة لقوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ». 3 - ولأن الامتناع أكل للأموال بالباطل، لأن من يمتنع عن دفع مستحقات الدولة قد انتفع بها، والواجب أن يدفع ثمن ما انتفع به لمالكه أو وكيله، وإلا كان ممن يأكلون الأموال بالباطل، وهذا حرام حتى مع الكافر، وقد سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية: هل يجوز توقيف ساعة (عداد) الكهرباء أو الماء فى دولة كافرة من أجل إضعاف تلك الدولة؟ أجابت اللجنة: لا يجوز؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ». أما تحريم دفع مستحقات الدولة بالنظر إلى قواعد الشريعة فمنها: أولاً: لحرمة الغاية التى يُقصد منها هذا الفعل، فقد اتفق الفقهاء على أن الدولة لها شخصية مستقلة، ولا صلة لها بمن يقوم عليها من حكم أو نظام، فإذا علمنا هذا تقرر بالضرورة أن الامتناع عن دفع مستحقات الدولة لن يؤدى إلى زوال النظام، ولكن سيؤدى إلى هدم الدولة نفسها، حتى إن زال النظام -جدلاً- سيزول عن دولة مدمرة فاشلة، لا تقوى على القيام بأعبائها، ومن ثم يكون الأمر حراماً لفساد غايته، ومعلوم أن غاية المسلم ومقصده لا بد أن تكون مصلحة شرعية معتبرة، لأن من أهم مقاصد الشريعة تحصيل المصالح وتكثيرها، وإزالة المفاسد أو تقليلها. ثانياً: لأن الامتناع عن الدفع وسيلة محرّمة فى ذاتها للأسباب السالفة، ومن ثم فالوسيلة فى الشرع لا بد أن تكون شرعية، لأنها تأخذ حكم مقصدها، فإن كان مقصدها مشروعاً فلا بد أن تكون هى أيضاً مشروعة، لأن للوسائل أحكام المقاصد، كما هو مقرر ومعروف، وإذا أجاز قال البعض إن صحة الغاية لا يلزم عنها صحة الوسيلة، فذلك متوقف على قيدين أساسيين نذكرهما فى المقال المقبل إن شاء الله.