لم تتم الإساءة إلى فريضة من فرائض الإسلام مثلما أسىء إلى فريضة الجهاد.. رغم أنها فريضة عظيمة من فرائض الإسلام استفاضت الآيات والأحاديث فى بسط وشرح فضلها وأثرها العظيم فى الدفاع عن الأمة والذب عنها ورد العدوان عليها وردع كل من تسول له نفسه هضمها أو ظلمها.. «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ». ولكن هذه الفريضة بالذات أساء إليها بعض أهل الإسلام وأنصاره كما أساء إليها خصوم الإسلام وأعداؤه على السواء.. فقد أساء إليها بعض أبناء الإسلام حينما وضعوا السيف فى غير موضعه، وفى المكان الخطأ والزمان الخطأ وبالطريقة الخطأ. أو حولوا الجهاد من وسيلة إلى غاية.. فالجهاد لم يكن يوماً مشروعاً لذاته والقتال لم يكن يوماً فخراً بذاته.. فالوحوش فى البرارى تتقاتل ويقتل بعضها بعضاً، ولا يعد ذلك فخراً لها.. ولكن الجهاد وسيلة فقط لإعزاز الدين والدفاع عن بلاد المسلمين.. وليس باباً لقتلهم وتفجيرهم أو اغتيالهم. كما أساء إلى هذه الفريضة الكثير من خصوم الإسلام وأعدائه الذين صوّروا الإسلام كدين وحشى يريد القتال والمواجهة المسلحة مع خصومه وأعدائه.. ناسين أن الإسلام كدين عظيم يجمع بين المثالية والواقعية، جاء لينظم حياة البشر لا الملائكة.. وما أدراك ما نزعات البشر الخيرة والشريرة معاً. لقد أدرك الإسلام أن سنن الاجتماع وطبائع البشر كثيراً ما تفضى وتؤدى إلى التنازع والبغى والعدوان والتنكر للحقوق والاعتداء على حقوق وبلاد الآخرين وسلب أرضهم وثرواتهم. ولولا اعتراف الإسلام بذلك لقضت عوامل الشر والفساد على دعوة الإسلام فى مهدها وظلت بلاد المسلمين محتلة إلى اليوم من التتار والصليبيين وغيرهم.. ولذا قال تعالى: «وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ».. فاعتبر القرآن أن هذا الدفع والدفاع بكل الوسائل السياسية والعلمية والاقتصادية والعسكرية نعمة من الله على عباده الصالحين إذا استخدموها بالحق والعدل والرحمة دون ظلم أو بغى. ورغم إقرار الإسلام للحرب من خلال فريضة الجهاد، إلا أنه وضع سياجاً من العدل والرحمة والإحسان، بحيث يحمى سيف الجهاد من البغى والعدوان. إن مشكلة فريضة الجهاد ليست فى ذاتها، ولكن فى الذين يسيئون إليها من أتباعها وخصومها على السواء، ويقدمونها للناس أسوأ تقديم.. ويشوّهون صورتها. فالذين قتلوا السياح المدنيين معصومى الدم فى الأقصر فى 1997، فعلوا ذلك باسم الجهاد.. والذين فجروا مترو مدريد ولندن، اللذين قتلا المدنيين، فجروهما باسم الجهاد.. مع أن الصحابة الذى آووا إلى الحبشة أيام النجاشى لم يحدثوا أى حدث فى بلاد غير المسلمين بالحبشة.. واحترموا خصوصية هذه البلاد غير المسلمة التى آوتهم. والذين قاموا بتفجيرات الرياض والدار البيضاء وعمان والأردن وطابا وشرم الشيخ فعلوا ذلك باسم الجهاد.. والذين فجروا المستشفى العسكرى بصنعاء من أجل قتل أحد المسئولين اليمنيين -الذى اتضح غيابه- فقتلوا العشرات من المرضى والأطباء والممرضات، فعلوا ذلك باسم الجهاد. والذين فجّروا مساجد السنة والشيعة فى العراق كان يظنون أنهم يطبّقون فريضة الجهاد.. والذين ذبحوا ال25 جندياً الذين أنهوا خدمتهم العسكرية وقتلوهم بدم بارد كانوا يظنون أنهم يحسنون صنعاً.. والذين قتلوا ال16 جندياً من الجيش المصرى وهم يفطرون المغرب كانوا يظنون أنفسهم مجاهدين سيأخذون الثواب من الله.. والذين فجروا السياح الكوريين الذين لا ناقة لهم ولا جمل كانوا يعتقدون أنهم مجاهدون. وكل هؤلاء وأمثالهم ينسون أنهم يسيئون بذلك إلى الإسلام نفسه وإلى فريضة الجهاد.. وأنهم يقدمون الإسلام إلى الناس بأسوأ طريقة، بحيث يكره الناس الإسلام وفريضة الجهاد أيضاً. لقد طُعنت هذه الفريضة من أبنائها قبل خصومها طعنات قاتلة.. وتم تشويهها وتدمير سمعتها على أيدى بعض أبناء الإسلام أكثر من خصومه. إن الحماس والنية الحسنة لا يكفيان وحدهما لقيام الشباب المسلم بواجبهم الشرعى تجاه قضايا أمته ومشكلاتها الأساسية والتهديد الجدى لتغيير هويتها أو احتلال بلادها أو تقسيمها. إن الجهاد فريضة مثل باقى الفرائض له شروط ينبغى توافرها قبل القيام بها، وله موانع يجب ألا تكون موجودة حتى يمكن إنفاذه.. أرأيت لو أن امرأة حائضاً أو نفساء صلت أو صامت.. هل يتقبل الله منها صلاتها أو صيامها أم يرده عليها.. حتى لو كانت نيتها التقرّب إلى الله.. ذلك لأن هناك مانعاً يمنع من هذه الطاعة فى هذا الوقت. إن علينا أن نتذكر جميعاً أن للجهاد ضوابط شرعية ينبغى أن ينضبط بها كل من يتصدى لها.. كما ينبغى عليه قياس المصالح والمفاسد المترتبة عليه.. فإذا غلبت المفاسد على المصالح أو غابت بعض شروط إنفاذه أو وُجدت بعض موانعه وجب التوقف عنه والامتناع عنه.. وهذا الامتناع يكون ساعتها أحب إلى الله وأقرب إلى الدين وأثقل فى ميزان أهل الإسلام والجهاد يوم القيامة من إنفاذه. إن العبث بالدماء واستسهال أمرها يعد فى غاية الخطورة، لا سيما إن كان يسيل الدماء ويهدرها بغير حق أو علم أو فقه ثم يظن أنها قربى إلى الله وزلفى إليه. فالعاصى الذى يريق الدماء نادماً آسفاً باكياً وعالماً أنها معصية، أهون من ذلك الذى يقتل ويفجر ويدمر ويغتال باسم الله وباسم الشريعة وتحت أسماء مثل «أنصار الشريعة».. أو ظناً منه أن ذلك يقربه من تحرير بيت المقدس.. أو أنه ضمن «كتائب الفرقان» التى تفرق بين الحق والباطل، دون أن يدرى أنه يمزق أمته ويشل حركتها ويؤخر تقدمها ويستبيح دماءها.