تذكرت وأنا أتابع مسرح الأحداث والصراع حول خريطة المستقبل بين قوى وطنية تسابق الزمن فى عزم على إنجازها وترجمة خطوطها إلى واقع، وبين قوى تجاوزتها حركة التاريخ تسعى لتفخيخها وترويع الوطن والارتداد إلى ما قبل الدولة، تذكرت حكاية وأنا بعدُ صبى صغير عن الثقة فى استجابة الصلاة؛ أن قرية كانت تعانى من الجفاف جراء تأخر المطر، اتفق سكانها على الخروج إلى الخلاء وإقامة صلاة جماعية يتضرعون إلى الله أن يمن عليهم بالمطر المتأخر، وفيما هم يتأهبون للخروج التفت طفل إلى أبيه قائلاً: أين «المظلة» يا أبى؟ فرد مستغرباً: وما حاجتنا لها؟ فبادره طفله: ألسنا ذاهبين لطلب المطر، والله سيتعطف علينا به، ونحن نثق فى استجابته، فكيف سنعود تحت رخات المطر المقبل؟ نثق أن الوطن سينتصر، وسنتذكر أيام الجفاف ومتاعب اللحظة ونقصها على أجيالنا، كواحدة من خبرات وطن ينبض بالحياة، وهذا يستوجب ألا نعطى للمعوقين حجماً يتجاوز قدرهم، ونحيلهم للتاريخ علهم يستوعبون درسه، لا أحد يملك كسر إرادة شعب أراد الحياة. وجدت أمامى كتابين، تباعدت أزمنتهما وموضوعاتهما؛ «فجر الضمير» لجيمس هنرى برستيد (1934) ترجمة د. سليم حسن، و«عبدالناصر والعالم» لمحمد حسنين هيكل (1972). ويبدو أن القراءة فى لحظة بعينها تتأثر بما يسيطر على البال من اهتمامات ومشاغل، فتتوقف أمام جملة أو فقرة بعينها قد لا تلتفت إليها فى لحظة مغايرة. ليس أهم من التفكير فى استحقاق الرئاسة الذى يفصلنا عنه أيام معدودات، ونحن نتوق إلى اقتحام دوائر الدولة الحديثة كما خبرها العالم المتقدم، والانتقال من الفرد إلى المؤسسة، وتحقيق مطالب الثورة (25، 30)؛ عيش، حرية، كرامة إنسانية. يحدثنا «برستيد» فى «فجر الضمير» عن لحظة مصرية عتيقة شهدت سعى المصريين لإعادة بناء دولتهم بعد انهيار مدوٍّ نتج عن توالى حكام ضعفاء انشغلوا بالصراعات الضيقة عن حماية الوطن. وكانت بداية الخروج من الأزمة أن «أقلع رجال الفكر عن التفكير فى الأبهة الظاهرة الكاذبة وتحولوا إلى التأمل العميق فى القيم الباطنة»، وأعادوا الاعتبار لإعمال العقل. ويورد سلسلة من النصائح وردت فى وثيقة من ملك إلى ابنه: «أعلِ من شأن الجيل الجديد ليحبك أهل الحاضرة، إن مدينتك ملأى بالشباب فضاعف الأجيال الجديدة من أتباعك، وإياك أن ترفع من شأن ابن العظيم على ابن الفقير بل اتخذ لنفسك الرجل من أجل كفايته»، «عظِّم من شأن أشرافك لينفذوا قوانينك، لأنهم إذا لم يكونوا أهل يسار فإنهم لا يقيمون العدل فى إدارتهم للأمور». ويورد مرافعة الفلاح الفصيح موجهاً كلامه للحاكم: «ضيِّق الخِناق على السارق، واحم التعس، نفذ العقاب فيمن يستحق العقاب، وليس هناك شىء يعادل استقامتك». ويقترب «هيكل» فى «عبدالناصر والعالم» من واقعنا، فى حوار مع أندريه مالرو المفكر الفرنسى يقارن بين «عبدالناصر» و«ديجول»، قال «مالرو»: «كلاهما واجه فى عصره اختياراً دولياً هائلاً وكلاهما رفض هذا الاختيار، كلاهما قيل له هل أنت مع أمريكا أم الاتحاد السوفيتى؟ وكلاهما قال لست مع أيهما إنما أنا مع وطنى وأمتى». ويقرر «هيكل» أن «عبدالناصر استطاع أن يؤمم الصراع الاجتماعى فى مصر، وقد توقف نبض التحولات الاجتماعية برحيل ناصر، وأصبح ضرورياً أن نبحث عن صيغة أخرى، ليس لتأميم الصراع الاجتماعى ولكن لتقنينه، بمزيد من الديمقراطية وتأكيد سيادة القانون، فذلك هو العاصم الوحيد من خطر تحول الصراع الاجتماعى إلى حرب أهلية تغذيها قوى عظمى تقف خلف طبقات متناقضة فى مصالحها». مهمة الرئيس اقتحام المستقبل مدعوماً بحضارة لا مثيل لها.