عندما هممت لكتابة المقالة الثالثة والأخيرة عن "المعارضة والطاقة النووية فى ألمانيا" تذكرت المقولة الشهيرة للفيلسوف الألماني الشهير "آرثر شوبنهاور" والتى يقول فيها "إن الموهبة هى إصابة الهدف الذى لا يستطيع غيرنا إصابته، أما العبقرية فهى إصابة الهدف الذى لا يستطيع غيرنا رؤيته"، ومن منا لا يتذكر أن الفيزياء الحديثة تأسست على أيدى ألبرت أينشتاين وماكس بلانك وفيرنر هايزنبرج وإرفين شرودنجر. فالألمان لهم إسهامات عظيمة فى جميع المجالات ويكفى أن نذكر أنه فى القرن العشرين كانت ألمانيا أكثر دولة فى العالم حازت على جوائز نوبل فى العلوم (الفيزياء والكيمياء والطب)، ومن بين 80 ألمانى حائز على جائزة نوبل حتى الآن، هناك 68 حملوا هذه الجوائز فى مجالات العلوم الطبيعية والتطبيقية. فى الفترة من عام 2005وحتى الآن أصبحت "أنجيلا ميركل" مستشارة لألمانيا (الحزب الديمقراطى المسيحى)، وفى سبتمبر 2009 شكلت حكومة ائتلافية منتخبة من الحزب الديمقراطى المسيحى CDU والحزب الديمقراطى الحر FDP، والتزمت الحكومة بألغاء سياسة التخلص التدريجى للمحطات النووية ووضعت تصور جديد لتمديد عمر المحطة النووية من متوسط 32 سنة إلى 60 سنة، وتم حساب العائد من وراء تنفيذ هذا التصور، فوجد أن الشركات المالكة للمحطات النووية سوف تحقق أرباح إضافية تقدر ب 100 مليار يورو أو أكثر، وكانت الحكومة حريصة على تأمين أكثر من نصف هذا المبلغ فقيمته أكثر بكثير من عائداتها الضريبة الإضافية. لكن تبددت أحلام تمديد العمر التشغيلى للمفاعلات النووية لمدة 60 سنة، ففى سبتمبر 2010 تم التوصل إلى اتفاق جديد، وبموجب هذا الأتفاق تمنح رخصة تمديد 8 سنوات من المواعيد المتفق عليها عام 2001 للمفاعلات التي شيدت قبل عام 1980، ومدة تمديد 14 سنة للمفاعلات التى شيدت بعد عام 1980، مع عدة إجراءات جديدة وهى فرض ضريبة قدرها 145 يورو لكل جرام من اليورانيوم الانشطارى أو وقود البلوتونيوم لمدة ست سنوات، وتسديد 300 مليون يورو سنويا لأعوام 2011 و2012، وتسديد 200 مليون يورو من عام 2013 الى عام 2016 لدعم مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، وضريبة قدرها 0.9 سنت لكل كيلووات ساعة لنفس الغرض بعد عام 2016. كل هذه الترتيبات أصبحت موضع شك بعد حادثة فوكوشيما، ففى يوم الثلاثاء 15 مارس 2011 أعلنت "أنجيلا ميركل" إغلاق مؤقت (وقف اختيارى لمدة ثلاثة أشهر) لسبعة من محطات الطاقة النووية في ألمانيا، على أن تكون البداية بإغلاق المحطات التى انشأت قبل عام 1980 فى حين تم إجراء مراجعة عاجلة للأمان لهم. وجاء هذا الإعلان الأخير بعد يوم واحد من أعلان الحكومة الائتلافية في ألمانيا وبعد تأخير لمدة ثلاثة أشهر فى قرارها تمديد عمر 17 محطة للطاقة النووية في ألمانيا. الصحف الألمانية بدأت تكتب عن دراماتيكية تذبذب سياسة "ميركل" بالأستجابة لحادثة فوكوشيما، وقال النقاد أن الأسباب الحقيقة وراء قرارها بإغلاق المحطات هو الانتخابات فى ثلاث ولايات فيدرالية ألمانية وبالأخص ولايات Badeng وWürttember، حيث يتنافس الحزب الديمقراطى المسيحى CDU بزعامتها مع يسار الوسط الديمقراطى الاشتراكى. في مايو 2011 ذكرت لجنة سلامة المفاعل RSK Reactor Safety Commission أن جميع المفاعلات الألمانية كانت سليمة في الأساس وآمنة ، كما استعرضت جميع المفاعلات ال 17 وتم تقييمها من ناحية المتانة فيما يتعلق بالأحداث الطبيعية التى تؤثر على المحطات، وتأثير انقطاع التيار الكهربائي على المحطة وتأثيرعطل نظام التبريد والتدابير الوقائية والطوارئ وكذلك الأحداث التى من صنع الإنسان التى تؤثر على المحطة، وعلى سبيل المثال سقوط طائرة على المحطة. لكن فى أغسطس2011 اتخذت الحكومة الأتحادية قرار بإغلاق 8 محطات إغلاق طويل الأجل، على أن تظل 9 محطات فى التشغيل بأجمالى قدرة كهربية 12.7 جيجاوات، والمحطات التى اغلقت إغلاق طويل الأجل هى محطة Biblis A من نوع PWR وقدرتها1167 ميجاوات، ومحطة Neckarwestheim 1 من نوع PWR وقدرتها 785 ميجاوات، ومحطة Brunsbuettel من نوع BWR وقدرتها 771 ميجاوات، ومحطةBiblis B من نوع PWR وقدرتها 1240 ميجاوات، ومحطة Isar1 من نوع BWR وقدرتها 878 ميجاوات، ومحطة Unterweser من نوع PWR وقدرتها 1345 ميجاوات، ومحطة Phillipsburg1 من نوع BWR وقدرتها 890 ميجاوات، كما اغلقت محطة Kruemmel من نوع BWR وقدرتها 1346 ميجاوات على الرغم من أنها بدأ تشغيلها عام 1984، وأصبحت حصة مشاركة المحطات النووية فى توليد الكهرباء قيمتها 17.6% بعد أن كانت تقارب قيمة 25% قبل إغلاق هذه المحطات. وكان من بين أهداف فلسفة التحول لمصادر طاقة بديلة هو خفض انبعاثات غاز ثانى أكسيد الكربونCO2 ، وأنصار حزب الخضر فى المانيا كانوا يأملوا وبثقة كبيرة فى أن المانيا ستحصل على 35% من احتياجاتها من الكهرباء من مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة بحلول عام 2020، وسوف ترتفع هذه النسبة الى 50% بحلول عام 2030، ثم الى 80% بحلول عام 2050. الكهرباء فى ألمانيا الآن تعتبر الأكثر تكلفة عن بلدان أوروبا بل وأصبحت الكهرباء سلعة فاخرة، فتكلفة توليد الكهرباء من الخلايا الضوئية أعلى بأربعة أضعاف عن توليدها من الفحم، والدعم للطاقة المتجددة أستمر فى الارتفاع حتى وصل الى 16 مليار يورو في عام 2013، وتكلفة الغاز الطبيعى المستورد حوالى ثلاثة أضعاف سعره فى أمريكا. وحتى الآن لم تسفر فلسفة التحول لمصادر طاقة بديلة عن النووية الى خفض انبعاثات ثانى أكسيد الكربون وهى أحد الأهداف الرئيسية، وأصبحت ألمانيا تواجه مشكلة مزدوجة وهى الأسعار والانبعاثات، حيث أن قرار ألمانيا إغلاق منشآتها النووية يضيف 300 مليون طن من CO2 حتى سنة 2020 نتيجة زيادة استخدام الوقود الأحفورى، والحكومة الالمانية الائتلافية الجديدة تبحث عن سبل للخروج من هذه الدائرة ومن الالتزامات القانونية التي فرضتها على نفسها. فى سبتمبر 2011 تم رفض ضريبة الحكومة المستمرة على الوقود النووى من قبل محكمة ضرائب هامبورج، وأعربت المحكمة على عدم توافق ضريبة الوقود النووى مع الدستور الألمانى. فى يناير 2013 أكدت محكمة ضرائب هامبورج على أن الضريبة الألمانية على الوقود النووى هى ببساطة وسيلة لسحب الأرباح من مشغلى المحطات النووية وبالتالى فهى غير دستورية، وأشارت فى خطابها إلى المحكمة الدستورية الى انه منذ يناير 2011 وعلى مدى عامين فقد بلغت الضرائب المدفوعة 1.5 مليار يورو. بعد مارس 2011 قامت شركات الكهرباء النووية فى ألمانيا بالضغط بطلبات التعويض وكذا بمقاضاة الحكومة بسبب استمرارها فرض ضريبة مقابل تمديد التراخيص لمدة 8 سنوات للمحطات التى انشأت قبل عام 1980 وتمديد الترخيص لمدة 14 سنة للمحطات التى انشأت بعد عام 1980 وهو ما اتفق عليه في سبتمبر 2010 . رفعت شركة RWE دعوى قضائية ضد الحكومة بشأن إغلاق محطتها Biblis-B وقالت إن التخلص التدريجى من المحطات النووية كلفها أكثر من 1 مليار يورو فى عام 2011 وحده. في فبراير2013 رأت المحكمة الإدارية في هيس أن الحكومة قد تصرفت بشكل غير قانونى في طلب إغلاق Biblis-A&B والذى تم فى مارس 2011. فى يناير 2014 أقرت المحكمة الإدارية العليا الألمانية حكمها بعدم قانونية الإغلاق القسرى لمحطة Biblis من قبل الدولة لأن شركة RWE لم تستشر وهذا يشكل خطأ إجرائى. وأود أن أؤكد على عدة نقاط وهى: 1. أن ما حدث وما سوف يحدث بالنسبة للأنشطة النووية الألمانية، ما هو إلا صراع بين القوى السياسية ولا دخل لسلامة وأمان المحطات النووية. 2. المحطات النووية اغلقت فقط ولم يتم تفكيكها وتكهينها والوقود النووى لازال داخل قلب المفاعلات المتوقفة. 3. التقييم الفنى للجنة سلامة المفاعل الألمانية (RSK) Reactor Safety Commission أكد أن جميع المفاعلات الألمانية سليمة وآمنة. 4. مذبحة ال VVER (مفاعلات روسية)، عليها علامة استفهام كبيرة ولا تستحق المفاعلات الروسية أن تذبح بهذه الطريقة. 5. مذبحة المفاعلات الألمانية بجميع أنواعها والأنشطة النووية فى ألمانيا، عليها أيضا علامة استفهام كبيرة ولا تستحق المفاعلات الألمانية أن تذبح بهذه الطريقة. 6. إذا كانت المفاعلات الأمريكية أصبحت مدة تشغيلها 60 سنة وسوف تزداد الى 100 سنة، فأن المفاعلات الألمانيا والتى تتبع الكود الألمانى وهو أكثر صرامة من الكود الأمريكى وتستطيع العمل لأكثر من 100 سنة. 7. فى عام 2020 ستحتاج ألمانيا إلى إستيراد 25 جيجاوات من الكهرباء لتغذية الحمل الاساسى، هذا من شأنه يضع ألمانيا في عام 2020 بنفس موقف إيطاليا التى تعتمد على إستيراد الكهرباء. 8. ألمانيا تنفق نحو 2.5 مليار يورو سنويا لدعم مناجم الفحم لإنتاج 55% من احتياجاتها الحالية من الكهرباء بينما كانت المحطات النووية تنتج حوالى 25% من احتياجات المانيا من الكهرباء قبل عام 2011 وبدون دعم.