لا صوت يعلو هنا على صرير الباب الحديدى الجرار، وانسحاق الأرض من تحته عند فتحه، لتظهر من خلفه سيارة فضية بموتور هادر وأضواء تعمى لها الأبصار. تخرج السيارة بمن فيها من ملثمين، وتغيب فى ظلام الطرق والمدقات، داخل العزبة، وتمر ساعات قليلة لتعود السيارة بعدها وتسكن حيث كانت، خلف الباب الحديدى الجرار. فى اليوم التالى يستيقظ الشارع على خبر دموى «هجوم مسلح على كمين للجيش بالطريق الدائرى ومقتل أفراده الستة»، وتتداول الصحف والفضائيات مقطع الفيديو الذى سجله منفذو العملية، وتتبادل أجهزة الأمن المعلومات بحثاً عن بؤرة المنفذين الذين ظهروا واختفوا فجأة وباغتوا أفراد الكمين. فى الساعات الأولى من 19 مارس، تعلن وزارة الداخلية دخولها فى تبادل كثيف لإطلاق النار مع مسلحين فى إحدى ورش عزبة شركس، الواقعة على عدة طرق رئيسية منها الطريق الدائرى، وطريق القناطر الخيرية، وطريق قليوب، كما تعلن مقتل اثنين من خبراء المفرقعات التابعين للقوات المسلحة خلال الاشتباكات، وسقوط جميع من كانوا بالمخزن وعددهم 6 إرهابيين، فيما قبضت على 6 قالت إنهم «ينتمون للخلية الإرهابية ذاتها»، بينما أكدت مصادر أمنية تورط هذه «الخلية» فى استهداف كمين مسطرد قبلها بأيام. أهالى العزبة لا يستبعدون تورط الخلية فى تصفية عناصر الجيش فى كمين مسطرد، ويقول حسين ربيع، من شباب القرية، إن «عزبة شركس موجودة قرب الطريق الدائرى عند نزلة باسوس ودى مش بعيدة عن كمين مسطرد أصلاً، يعنى لو الطريق فاضى وقت الصبح هتاخدها فى حوالى 10 دقايق مش أكتر، يعنى الناس دى طلعت قتلت العساكر والظباط اللى فى الكمين فى الفجر، وبعدين أخدوا الدائرى ونزلوا نزلة باسوس ومنها على عزبة شركس علشان كده اختفوا فى لمح البصر». تقع عزبة شركس ضمن زمام قرية شلقان بمركز القناطر الخيرية بالقليوبية، وبحسب تعبير رضا فتحى، وكيل مدرسة خاصة بعزبة شركس، إن القرية تعتبر «وكراً آمناً للخلايا الإرهابية، ليس لأنها تضم منتمين للتيار الدينى المتشدد، بل كتلة سكانية ليس لها ميل كبير لأحد الأطراف السياسية الحالية، لا الإخوان ولا غيرهم، وهذا فى حد ذاته سبب لأن تكون وكراً للإرهابيين الذين لن يلتفت لهم أحد أو يبلغ عنهم». «القرية لها عدة مداخل ومخارج آمنة، ولها طريق يوصل سريعاً للطريق الدائرى ومنه إلى أى منطقة أخرى»، يضيف رضا: «العربية اللى تم تنفيذ عملية مسطرد بها، لقيناها موجودة جوا المصنع، وأكيد إنهم استخدموها فى الدخول والخروج للقرية من الطرق الجانبية بدون ما يتعرضوا لأى أكمنة». ويتوقع رضا أن يكون قتلى عملية الشرطة الأخيرة قد نفذوا حادث كمين مسطرد الذى وقع خلاله 6 قتلى فى صفوف الجيش، ويبرر اختفاءهم بعد عملية مسطرد بأنهم سلكوا طريق المقابر الذى يربط بين القرية والطريق الدائرى «غير المأهول بالسكان، ومنه اختفوا داخل القرية». لعزبة شركس عدة مداخل منها سيدى حامد، القريب من كوبرى الحادثة، ومدخل «الحادثة» ومدخل «المقابر» على طريق القناطر، ومدخل المزرعة على طريق قليوب، فضلاً عن مدخلين آخرين يربطان العزبة بقرية أبوالغيط التى تصلها مباشرة للطريق الدائرى، وبالعزبة «رشّاح» لمياه الصرف الصحى يتوسطها ويشطرها لشطرين، الأول جهة اليمين به مساكن ومركز للشباب ومدرستان ابتدائية وإعدادية، ومقابر، والثانى به منازل وبعض ورش التصنيع الكبيرة، بينها ورشة لتصنيع الأثاث المكتبى والمطابخ، وهى التى اتخذها العناصر المسلحون كمستقر لهم منذ أكثر من 40 يوماً. ويقول أحد الأهالى إن «الطرق المحيطة بالقرية ضعيفة من حيث تأمينها، وده سبب من أسباب اختيارها وكراً للإرهابيين، ولما الشرطة اقتحمت المصنع إمبارح وقتلتهم همّا الستة عثرت بالداخل على 3 سيارات واحدة ملاكى ماركة متسوبيشى أسود لكنهم طلوها باللون الفضى، وهى اللى نفذوا بيها عملية كمين مسطرد وظهرت فى تسجيلهم اللى تمت إذاعته يومها، وكمان وجدوا عربية فيات 127، وعربية نصف نقل حمراء، وموتوسيكل». ويقول عدد من الأهالى إن قتلى الأربعاء الماضى، ربما كانوا يخططون لمزيد من العمليات النوعية، ما يبرره بعضهم بوجود كميات من المتفجرات والأحزمة الناسفة والأسلحة الآلية بداخل المصنع، ويقول حسين ربيع، إن «العزبة قريبة جداً من سجنين مهمين، محدش يستبعد إنهم كانوا على قائمة العمليات اللى كانوا ممكن ينفذوها لو الشرطة معرفتش مكانهم زى سجن القناطر وسجن قليوب وكل واحد فيهم بعيد عن القرية بمسافة كافية بحيث ينفذوا خبطتهم ويرجعوا للقرية، ولا من شاف ولا من درى، وتفضل الشرطة تبحث عنهم للسنة الجاية، ولا يمكن تتخيل وجودهم فى المكان ده». الطريق إلى عزبة شركس قصده مستأجرو المصنع الجديد منذ أربعين يوماً؛ حين كانت أكثر هدوءاً، ثم سلكته قوات الشرطة التى دخلت لساعات طويلة فى اشتباك مسلح عنيف فزع له سكان القرية الذين لزموا منازلهم تجنباً للرصاص الطائش والأحزمة الناسفة، التى يقول بعض الأهالى إن «العيال اللى كانوا فى المصنع لبسوها وهددوا إنهم هيفجروا نفسهم بيها»، والطريق ذاته تتبعته مؤخراً عدسات المصورين الذين يسجلون واقعاً هادئاً وبيئة مناسبة فى عزبة هامشية فى أهميتها ومركزية فى موقعها بين طرق تؤدى إلى أكمنة وسجون ونقاط تمركز للشرطة والجيش يدّعى الأهالى والشرطة سواء بسواء أنها كانت على قائمة الاستهداف.