أكتب وبى كم هائل من الغيظ؛ ذلك لأنى لم أعد أحتمل الدهوَلة والركاكة وقبح المشاهد.. الذى حصل أنهم ذبحوا لى مقالاً عزيزاً، أطاحوا بعنايتى الفائقة بترقيمه وترتيب فقراته وفقاً لإيقاعه المؤدى بصنعة اللطافة إلى الهدف المأمول، نكشوه بلا مبالاة ومزقوه إرباً إرباً وكان العذر: «لا أحد سوف يلاحظ هتك الترقيم والعبث بالفواصل والنقاط وما إلى ذلك من الشكليات!»، طبعاً هذا الكلام قيل باللغة العامية التى تضفى خفة الظل على كل المصائب لكنى لم أضحك لأنى حقاً كنت فى ضيق وكرب شديد. مشكلتى -ولِمَ هى مشكلتى؟- أننى أقف أمام الكتابة باحترام شديد؛ أعتنى بالفصلة والفصلة المنقوطة والقوس الكبير الذى يتضمن الصغير، والنقطة التى يمتد بعدها الكلام غير التى تختم الفقرة وتأخذنى إلى بداية فقرة جديدة من أول السطر؛ فأنا مؤمنة إيماناً يقض مضجعى بأن حكاية إحكام الكتابة وضبطها لا تقل فى أهميتها عن موضوعها وموقفها. لا أدعى -وإن شهد لى الأعداء قبل الأصدقاء بما يرضينى- أننى أمسكت بتلابيب فن الكتابة وأصبحت خالية من التوجس خشية أن أكون قد دخلت فى شق ثعبان الزهق، فى كل مرة أكون فى حضرة الكتابة تعترينى الرهبة وأنا أتلمس الإحكام الذى أفتقده حتى لا أنسى نفسى وأقع فيما أعيبه على السائد الذى سيطر على معظم المكتوب والمنشور والفائز بالتقدير رغم رثاثته. نعم، لم يعد من السهل إكمال مكتوبات تغرينى عناوينها بقراءتها، ما إن أبدأ حتى تزهق روحى، ليست المشكلة عاميتها الدارجة، التى شاعت ونثرت بثورها فى كل الأنحاء؛ العطب ضارب أطنابه فى النسج ذاته فمن أين يمكن أن أقضم قضمتى.. من الجانب الأسمنتى أم من الجدية المتخشبة أم من متناثرات علامات التعجب بلا دلالة والأقواس المهملة والنقاط العصبية من دون ضرورة تفرش نفسها كالصئبان فى شعر مهوش لا يجد صاحبه أى حرج من عدم تمشيطه؟ لا شأن لى بما يؤذينى، لكم ما تحبون ولى ما أراه صواباً، فما شأنكم أنتم بحرصى على الانضباط والاعتناء بالواجب والأصول، وما المأرب من وراء إرغام أنفى على التغاضى وقبول ما لا يمكننى قبوله للتقولب وأخذ سمت الوباء؟ نعم، حصل فى نهاية الخمسينات ومطلع الستينات أن قامت حركة عالمية فى الكتابة تنزع عنها علامات الترقيم واستبدلت بها تدفقا سريعا هادرا للأفكار تركب الكلمات باندفاع لا يتوقف إلا بغتة. كانت محاولة مدروسة مقصودة ومبادرة شاء روادها أن يدلف التوتر نابضاً بفنية الكتابة، نجحت لبعض الوقت وكنت من مؤيديها فى حينها، لكنها لم تستمر، وهى شىء بعيد كل البعد عما يحدث لأحوال الكتابة فى ربوعنا واستباح حرمة مقالى، المصاب بخرطوش البلاهة والسماجة فأطاح ببؤرة عينه وأبكانى، وجاء بى إلى هذه الزاوية فى «الوطن» علنى أجد ما يسرنى ويسر القارئ المتململ بحول الله وقوته!