ولدت بعد رحيل الزعيم جمال عبدالناصر بعام.. وبالتالى لم أعش أيامه وخطبه ومواقفه، لكنّ شيئاً ما جعلنى أعشق هذا الرئيس، قد يكون حكاوى والدى الكثيرة عنه، وفخره الدائم به أو انتمائى للصعيد، أو انبهارى بمواقفه العظيمة رغم اعترافى بأخطائه الكبيرة أيضاً، لكنى دائماً أرى فيه الرجل المخلص المهموم الذى أراد أن يصيب فأخطأ.. أو إعجابى بمشروعه الوطنى سواء الانحياز للفقراء أو الاستقلال أو الكرامة فى عصر تغيرت فيه هذه المعانى.. ولولا جرأته ما تحقق أى شىء، فعبدالناصر كان ضابطاً وطنياً يمثل نموذجاً فريداً للجيش المصرى. لا يمكن أن يصدق أحد أن رئيساً رحل منذ أكثر من 43 عاماً وما زالت صوره ترفع فى المظاهرات، والبعض ما زال متعلقاً بها فى المنازل، وليبحث الخبراء كم نسبة المصريين الذين أطلقوا على أبنائهم اسم «جمال أو ناصر أو عبدالناصر» خلال عهده أو بعد رحيله.. وكانت جنازته أكبر مليونية فى تاريخ البشرية.. الجميع يذرف الدموع على رحيل القائد والزعيم والملهم، والمخلص، حتى إن والدتى، رحمها الله، والتى تكره السياسة، كانت تحكى لى دوماً أنها نزلت لتشارك فى وداع «الأب»، كما أن مشهد الفنان محمود عبدالعزيز فى مسلسل «رأفت الهجان»، بعد وفاة عبدالناصر لا يغيب عن ذهنى، عندما تأثر بوفاة عبدالناصر، قائلاً: كنت حاسس إنه أبوى وأخوى».. لا أزهق من مشاهدة فيلم «ناصر 56»، والمشهد العبقرى سواء مع الفنان حسن حسنى، أو ذلك المشهد الذى يرد فيه تلقائية على مكالمة سيدة مصرية أصيلة.. ليس فى الداخل فقط، لكن بالخارج أيضاً أتذكر عبدالناصر، ففى الصين التقيت منذ شهرين بمسئول كبير بالحزب الشيوعى فقال: «الشعب الصينى ما زال يعتز بالزعيم عبدالناصر ويقدر له مواقفه»، هذه جملة تتكرر فى دول عربية كثيرة وأجنبية أيضاً.. فالتاريخ يلعب دائماً فى صالح عبدالناصر بل، والجغرافيا والأحداث.. أذهب إلى بورسعيد قبل ثورة يونيو بأيام، أقرأ كلمات عبدالناصر فى كل مكان، وعندما جلست مع المناضل البدرى فرغلى على مقهى «سمارة»، يشير لى الصديق الصحفى حمدى جمعة إلى رجل عجوز قائلاً: «هذا من رجال المقاومة، لا يترك مظاهرة حتى الآن إلا ويتقدمها رافعاً صورة «عبدالناصر».. أجلس مع قادة سابقين بالجيش يحكون أساطير عن «القائد»، ومنهم من وصل التأميم إلى أراضى عائلاتهم.. ألتقى منذ سنوات بمهندس كبير فى وزارة الرى غير معجب بالزعيم، لكنه يقول لى: «لو لم يفعل سوى مشروع السد العالى لاستحق تخليده»، وأعتقد أن العمال والفلاحين، وكذلك الكثيرون يتذكرون له أعمالاً أخرى.. أذهب مؤخراً إلى احتفال للجيش لتكريم الفريق عبدالرحمن فهمى، قائد البحرية فى معركة «إيلات»، فتجد فى الفيلم الوثائقى أن عبدالناصر قد اكتشفه قبلها بسنوات وقام بترقيته استثنائياً.. لقد جدد الإخوان حب عبدالناصر فى قلوب المصريين بعد أن ظلت تهمة تجنيه عليهم تطارده سنوات عديدة ويستخدمها خصومه للنيل منه، فيكتشف الشعب بعد عشرات السنوات أن القائد كان صاحب بصيرة، ولم يظلمهم، بل هم من حاولوا اغتياله، بينما هو كان يحمى الدولة المصرية من شرورهم. عبدالناصر.. حدوتة مصرية.. تعرض للإساءة من خصومه وأحياناً من مؤيديه، لكنه ظل يمثل ملحمة تزعج الأعداء وتشعر المصريين بالفخر.. ولا أعرف لماذا اغرورقت عيناى عندما أشاهد خطبه، أو مواقفه.. ولماذا سجلت «ابنتى» الكبرى «روضة» منذ 10 سنوات فى نفس تاريخ ميلاد «عبدالناصر» رغم قدومها قبلها بأيام.. كل ذلك وما زال البعض يسألنى لماذا أحب ناصر.. ولم أجد إجابة سوى «ومن لا يحب عبدالناصر؟».