رغم مرور 42 عاماً على رحيله.. مازال حضور جمال عبدالناصر طاغياً فى وجدان المصريين، يبدو «جمال» فى حياتنا السياسية حياً وهو فى عداد الأموات، بينما يزخر المشهد السياسى بموتى وهم على قيد الحياة. توهجت ذكرى «عبدالناصر» فى القلوب أيام ثورة يناير/ فبراير 2011، حينما خرجت جموع الشعب تطالب بمثل ما نادى به «ناصر» قبلها بنحو نصف قرن وتهتف: «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية». وكلما مضت الأيام والأسابيع والشهور، ازدادت سيرة هذا الزعيم الوطنى إلهاماً للملايين، وهم يستذكرون كيف استطاع البكباشى الشاب ذو الأربعة والثلاثين عاماً أن يحول انقلاباً عسكرياً إلى ثورة اجتماعية، فى غضون 48 يوماً فقط، عندما أطلق مشروع الإصلاح الزراعى يوم 9 سبتمبر عام 1952، فى حين تلوح الآن فى الأفق مخاوف من اختطاف ثورة يناير وإجهاض أهدافها ووأد مشروعها الاجتماعى. فى هذا الملف نقترب من مساحات إنسانية فى حياة الرجل الذى لايزال محتفظاً بقدرته على إثارة الجدل حتى اليوم، نفتح فيه صندوق بريده، ونطلّع على صور شخصية فى مراحل مختلفة من حياة بكباشى صار زعيماً. غداً.. تمر الذكرى الثانية والأربعون على رحيل الغائب الحاضر جمال عبدالناصر. عبدالناصر ليس أسطورة! كان موعدى اليوم، أن أبدأ حديث المعركة الأخيرة التى خاضها جمال عبدالناصر، والتى وصفتها بأنها كانت من أروع معاركه... ولكنى اليوم ألتمس التأجيل، ولا ألتمسه لمرة واحدة... ولكن لمرتين، ومناى ألا أتجاوز ذلك. إن اليوم يوافق ذكرى الأربعين بعد رحيله... ويخطر ببالى أن هناك أشياء يجب أن تقال فى هذه المناسبة، بعضها موصول بذكراه نفسها، وجلالها، وكمالها، والبعض الآخر موصول بما بعد الذكرى من ضرورات وضمانات. وأبدأ الآن بالنصف الأول مما يجب أن يقال، وما هو موصول بالذكرى نفسها، وجلالتها، وكمالها، على أن أرجئ إلى حديث آخر، ما هو موصول بما بعد الذكرى من ضرورات وضمانات. وأريد أن أقول الآن ما يلى: ■ أولاً: إنه ليس من حق أحد بيننا، أن تراوده- على نحو أو آخر، بقصد أو بغير قصد- فكرة تحويل جمال عبدالناصر إلى أسطورة... إن الحب الزائد له، والحزن الزائد عليه- وكلاهما فى موضعه- يمكن لهما أن يدفعا بالذكرى دون أن نشعر إلى ضباب الأساطير. كما أن بعضنا قد يتصور لأسباب شتى أن ذلك مناسب أو مطلوب... والحقيقة أن هذا كله مهما كانت دوافعه يضع جمال عبدالناصر فى غير مكانه الصحيح. إن الأسطورة تشتمل على إيحاء غيبى، كما أنها تحمل لمسة مما وراء الطبيعة، وليس من ذلك كله أثر فى جمال عبدالناصر. ولقد كان أعظم شىء فى جمال عبدالناصر، أنه كان حياة إنسانية زاخرة، عاشت على الأرض، وبين الناس، وتحت أشعة شمس مصر الباهرة. وكان أكثر ما ينفر منه جمال عبدالناصر فى حياته، هو عبادة الفرد، ولهذا فإنه ليس من حق أحد بعد الرحيل أن يجعل منه إلهاً معبوداً فى هرم آخر على أرض مصر. إن جمال عبدالناصر لا يسعده أبداً أن يجد نفسه تمثالاً شاهقاً من الحجر، وإنما يسعده أن يظل دائماً مثالاً نابضاً للإنسان... لحم ودم... إرادة وأمل... عقل وعاطفة... قرارات فيها الصواب وفيها الخطأ، وأحسب أن جمال عبدالناصر هو واحد من القلائل الكبار الكبار فى عالمنا وعصرنا الذين واتتهم الشجاعة لكى يقفوا أمام الملايين يتحدثون بأمانة ورجولة عن التجربة والخطأ. ولو أردت أن أستعمل أسلوب المجاز، لقلت: «لا يجب أن تصبح ذكرى جمال عبدالناصر جداراً نقف أمامه فى خشوع ورهبة، وإنما يجب أن تصبح ذكرى جمال عبدالناصر أجمل المروج الخضراء فى حياتنا، نذهب إليها بالحنين والمحبة، ونحس فيها بالصفاء الروحى والذهنى، شاعرين أننا فى جوها النظيف والطاهر على صلة وجدانية بالضمير الوطنى والقومى لشعبنا وأمتنا». أقصد أن ذكرى جمال عبدالناصر لا يجب أن تتحول إلى تراث- أو إرث- نعيش عليه، ولكنها يجب أن تبقى قيمة نعيش معها... قيمة لا نقف أمامها بالصمت ولكن ندخل معها فى حوار مستمر.. لا نصلى لها، ولكن نفكر فيها. وأعتقد مخلصاً أن جمال عبدالناصر كان يقول بذلك، لو كان قد أتيح له أن يبدى رأيه فيه. كان- كما قلت- ينفر من عبادة الفرد، أو على الأقل لا يستسيغ المنطق الذى تستند إليه، مهما كانت مبرراته، وأذكر فى ذلك وقائع كثيرة، تشير كلها إلى ذلك اليقين لديه. كانت هناك تجارب يقدرها حق قدرها، ويعجب بما حققت أشد الإعجاب، لكنه كان يصل إلى نقطة تقديس الزعيم فيها، ويقول: - لا أعرف لماذا تورطوا فى مثل ذلك، إنه ليس خطأ فى فهم دور الفرد فحسب، ولكنه يمكن أن يشكل عقبة أمام التطور أيضاً، لأنه يعطى للأموات وصاية على الأحياء... وليس ذلك إنصافاً، لا للأموات، ولا للأحياء». [هذه- نقلاً عن مذكرات كتبتها سنة 1958- نصوص كلماته بالحرف] ومنذ شهور، شاهد مرة فى بيته فيلماً صينياً، وكان الفيلم حافلاً بتصرفات لأبطاله، نسبت فى كل المواقف لتعاليم ماوتسى تونج. وكان تعليق جمال عبدالناصر على ذلك: - «إن ماوتسى تونج فى رأيى، من أعظم رجال هذا القرن، ومن الذين أثروا فيه بشكل قاطع وواضح، ولكنى حقيقة، لا أستطيع أن أفهم الفلسفة التى يقوم عليها تقديس الفرد، ونسبة المعجزات إليه». وظل الموضوع معه إلى اليوم التالى، وبدأه مهتماً «بالفلسفة الصينية، وبالشخصية الصينية وبالتاريخ الصينى... وهل فيها جميعاً ما يسمح بذلك؟». وأذكر مرات، بغير عدد، حضرت فيها مقابلات جمال عبدالناصر مع معظم الصحفيين الأجانب الذين قابلهم، وكان السؤال المتكرر على ألسنة كثيرين منهم موجهاً إليه، هو: - «ما هو السبب الذى تعزو إليه تأثير قيادتك فى العالم العربى؟». وكان رده الذى لا يتغير، وعن يقين نافذ إلى الصميم، هو: - «إننى لا أقود العالم العربى... لست قائداً لهذا العالم العربى... ولكننى مجرد تعبير عنه فى ظرف معين وفى زمان معين». ثم كان يضيف: - «دورى فيه، هو بمقدار تعبيرى عنه...». ولعلى أستكمل الصورة هنا، بمشهد من أعمق المشاهد التى أعتقد أن جمال عبدالناصر أثر فيها علىّ تأثيراً غير محدود. كان ذلك فى شهر فبراير سنة 1958... وفى دمشق التى أحبها من أول نظرة، حباً بقى معه إلى آخر لحظة. كان قد وصل إلى دمشق- لأول مرة فى حياته- بعد اتفاقية الوحدة، وكان قد انتخب رئيساً لسوريا- فى إطار الجمهورية العربية المتحدة- بينما قدمه لم تطأها بعد. وكان استقباله فى عاصمة الأمويين مذهلاً. ووقف فى شرفة قصر الضيافة، بينما عشرات الألوف يزحفون إلى الساحة الواسعة أمامه، بعد أن عرفوا بوصوله إليهم. كان فى الشرفة، وتحته بحر متلاطم الأمواج من الناس الذين ذابوا حماسة له، فلم يعد على الشفاه غير اسمه يدوى كالرعد ترتد أصداؤه على جبل قاسيون الذى يبدو من بعيد أمام الواقف فى شرفة القصر. ووقف ساعات، ويداه مرفوعتان بالتحية، ومشاعره هو الآخر ذائبة، كأنها ومشاعر الجماهير تيار يتدفق فى مجرى واحد. ثم دخل إلى قاعة مكتب تطل على الشرفة يستريح بعض الوقت ويشرب كوب ماء... أول قطرات من ماء بردى... وسألنى وأنا جالس بجواره: - «هل رأيت...؟». ثم استطرد: - «ما هو رأيك؟». قلت بأمانة: - «لو أنك كنت شخصاً آخر غير من أعرف، لكنت قلت لك وأنت واقف فى الشرفة: (تذكر أنك بشر)... لكنى معك لا أحتاج أن أقولها». وكان رده على الفور: - «غريبة... لقد كنت أفكر فى شىء من ذلك طول الوقت... لقد كنت أقول لنفسى وأنا أشاهد ما شاهدت: لا تنس نفسك... هذا كله ليس لشخصك... ذلك كله لأمل عند الناس فى الوحدة... وما لك فيه هو بمقدار إخلاصك لهذا الأمل». [كان من أغلى أحلامه قبل أن يغمض عينيه، أن يعود يوماً إلى دمشق، وكاد يذهب إليها فعلاً فى شهر يونيو سنة 1970، حينا طرح الدكتور نور الدين الأتاسى، رئيس الدولة السورية، أثناء اجتماعات بنغازى الأخيرة، أن تنضم سوريا إلى دول ميثاق طرابلس، وأن تجرب معها محاولة أخرى فى الوحدة، وفكر جمال عبدالناصر، وقال أمام الدكتور سامى الدروبى، سفير سوريا فى القاهرة، وأمامى، ونحن فى قصر الضيافة فى بنغازى: - «إذا تم الاتفاق، سوف أخرج من بنغازى إلى دمشق رأساً». وتحمس سامى الدروبى وقال لجمال عبدالناصر: - «سيادة الرئيس... لابد أن تذهب إلى دمشق». وقال جمال عبدالناصر بالحرف: - «أريد أن أذهب إلى دمشق... ولكنى أريد أن أذهب إليها بأمل الوحدة، وليس بدونه». ثم استطرد: - «إذا اتفقنا، فإنى على استعداد لأن أذهب إلى دمشق لأعلن عودة الوحدة... وبعدها، فإنى على استعداد لاعتزال العمل السياسى... حتى لا يقال إننى أردت الوحدة لنفسى». وقال سامى الدروبى متحمساً: - «إن ذهابك إلى دمشق فى حد ذاته يا سيادة الرئيس سوف يصنع الوحدة...». ونظر إليه الرئيس فى حنان، وقال له: - «سامى... لا تتحمس... إن الأمور أعقد من ذلك بكثير». وكان عبدالناصر مصيباً فى تقديره، لأن الأمور كانت أعقد من ذلك فعلاً... والغريب بعد ذلك، أن يوم الرحيل كان هو يوم ذكرى مرور تسع سنوات بالضبط على يوم الانفصال...] وأعود من ذلك الاستطراد الطويل، إلى إعادة التأكيد على «أنه ليس من حق أحد بيننا، أن تراوده على نحو أو آخر، بقصد أو بغير قصد، فكرة تحويل جمال عبدالناصر إلى أسطورة». إساءة إليه أن يتحول إلى أسطورة صماء ملساء.. ليس عليها تعبير، وليست لها تقاطيع وملامح. والتكريم الحقيقى له، أن يظل بيننا، إنسانا قبل كل شىء... وبعد أى شىء. حياته على الأرض وبين الناس وتحت ضياء الشمس، وليست سرا فى الضباب، وأسطورة تحمل إيحاء غيبيا أو لمسة مما وراء الطبيعة.. مثال، وليس مجرد كمثال. صحبة فكر.. منزهة عن عبادة فرد. ■ ثانيا: إن جمال عبدالناصر ليس له خلفاء ولا صحابة، يتقدمون باسمه أو يفسرون نيابة عنه. لقد كان له زملاء وأصدقاء، وقيمة ما تعلموه عنه، مرهونة بما يظهر من تصرفاتهم، على أن تكون محسوبة عليهم، دون أن يرتد حسابها عليه. إن خلفاء جمال عبدالناصر وصحابته الحقيقيين هم كل الشعب، وليسوا بعض الأفراد، وهم كل قوى التطور والتقدم، وليسوا بعض المجموعات، وهم كل المستعدين لأن يعطوا باسم عبدالناصر، وليسوا كل الذين يمكن أن يأخذوا باسمه. وأكاد أقول إن تأثير جمال عبدالناصر فيمن لا يعرفهم شخصيا، أعمق منه فيمن عرفهم شخصياً، ذلك لأن الذين لم يعرفهم كان استيعابهم لفكره خالصاً، وأما الذين عرفهم، فإن استيعابهم لفكره ربما كان مشوبا- فى بعض الأوقات وفى بعض الظروف- بمطامحهم الذاتية، وهذا مفهوم، لأن الطبيعة البشرية لها أحوالها ونزعاتها. ولقد يستطيع زملاء وأصدقاء جمال عبدالناصر أن يرووا عنه، ولكن ذلك كله يدخل من باب التاريخ، دون أن يكون جوازا إلى باب المستقبل. وأريد أن أكون واضحا. إننى مع الذين يؤمنون بأن علم التاريخ هو علم فهم المستقبل، باعتبار أن التاريخ هو وعاء التجربة الإنسانية. ولكن هناك فارقا كبيرا بين حالتين: - حالة التاريخ كعلم لفهم المستقبل - وحالة التاريخ كفن للتحكم فى المستقبل! الحالة الأولى مقبولة، بل مطلوبة، على ألا تكون امتيازا لأحد، وإنما يشارك فيها كل الذين رأوا منه وسمعوا عنه، حتى ولو كان لقاؤهم معه دقائق وثوانى. والحالة الثانية غير مقبولة، بل هى مرفوضة لأنها تحمل شبه تحويل ذكرى جمال عبدالناصر إلى كهنوت، والكهنوت له كهنة، والكهنة لهم حجاب، والحجاب لهم حراس، والحراس وراء أسوار، والشعب خارج الأسوار ينتظر الوحى... وهذا كله أبعد الأشياء من جمال عبدالناصر وشخصيته وطبيعته ثم هو أكثر ما يكون تصادماً مع معتقداته الأساسية. أقول ذلك- لنفسى قبل أى شخص آخر- وقد كنت واحدا من الذين شرفهم بصداقته وزمالته. وأقول ذلك عن اعتقاد بأن جمال عبدالناصر نفسه أغلق أمامنا جميعاً باب الاجتهاد. لقد كان جمال عبدالناصر ابنا شرعيا لأمته ولعصره. من هنا، فإن الجزء الأكبر من حياته، كان وسط الجماهير نفسها، يتحدث إليها ويسمع منها... هذا عن صلته بالأمة. وأما عن صلته بالعصر، فإن الجزء الأكبر من العمل العام لجمال عبدالناصر كان فوق وأمام أهم الأدوات العصرية فى السياسة الحديثة.. المنصة والميكروفون وعدسة التصوير. كانت الحاجة إلى الشراح والمفسرين تظهر عندما كان أصحاب الرسالات الإنسانية الكبرى بعيدين عن الوصول إلى أوسع الجماهير. كان ذلك قبل عصر الصحافة والكلمة المطبوعة، وقبل عصر الإذاعة والكلمة: مرئية أو مسموعة. أما فى هذا العصر، فإن جهد الشراح والمفسرين محصور فى نطاق محدد، هو نطاق الربط والوصل بين الأفكار والوقائع.. أو بين الوقائع والأفكار، لكى تظهر التجربة كلها خطا واحدا مستمرا من البداية إلى النهاية. ولقد قمت بإحصاء سريع- وتقريبى- عما تركه جمال عبدالناصر من فكره وكانت النتيجة مدهشة: ■ ملء أكثر من ستة آلاف صفحة جريدة، مليئة بكلماته خلال الثمانية عشر عاما الأخيرة، سواء فى الخطب أو الأحاديث. ■ امتداد ثلاثة آلاف ساعة مسجلة بصوته وصورته فى الإذاعة والتليفزيون فى مصر وخارج مصر.. ■ ما لا يقل عن ألف ساعة مسجلة أو مدونة له فى محاضر جلسات رسمية تمس قضايا العمل الداخلى والعربى والدولى كلها. ماذا نريد أكثر من ذلك عن فكره..؟ إن أفكاره كلها موجودة.. حتى وهى بعد أجنة فى مرحلة التكوين؟ وأما عن التاريخ، فإن من أبرز ميزات جمال عبدالناصر- وكان هو يفخر بها- أنه استطاع أن ينقل الشارع إلى السياسة العليا... وأن ينقل السياسة العليا إلى الشارع. إن أى جهد فى التاريخ بعد ذلك لا يضيف أكثر من لمحات قريبة أو تفصيلات دقيقة، لكن ذلك- مع أهميته الكبرى- لا يؤثر ولا يغير شيئاً فى المسار العام لما هو معروف فعلا. ■ ثالثا: إننا نسىء إلى جمال عبدالناصر إساءة بالغة- نضايقه ويجب أن تضايقنا- إذا نحن حاولنا أن نستخدم تراثه بدلاً من أن نخدم هذا التراث. إن الرسالات السماوية تختلف عن الرسالات الإنسانية. الرسالات السماوية نصوص يجب التقيد بها، لأنها وحى إلهى. وأما الرسالة الإنسانية، فهى منهاج للتفكير وللعمل. إن الرسالة الإنسانية، كمنهاج للتفكير وللعمل، تقابل ظروفا متغيرة، ولا يمكن على الإطلاق مواجهتها بمنطق أنها «نص لكل زمان ومكان»! ونحن نقول بالاستمرار على طريق عبدالناصر، وهذا صحيح وسليم، ولكن طريق عبدالناصر ليس نصوصاً، وإنما هو- كما اتفقنا- منهاج تفكير وعمل. ولو حولنا طريق عبدالناصر إلى 5 نصوص، فإننا قد نجد أنفسنا فى محظور التجميد، بينما طريق عبدالناصر الأصيل هو طريق التجديد. إن طريق جمال عبدالناصر لا يعنى إبقاء كل شىء كما كان عند اللحظة التى تركه هو فيها، ذلك أنه لو كان جمال عبدالناصر لم يرحل لما بقى كل شىء عند تلك اللحظة. إن جمال عبدالناصر ترك لنا منهاجاً للتفكير وللعمل.. ويمكننا أن نقيس به مع الظروف المختلفة والمتغيرة وأن نتخذ لأنفسنا وبأنفسنا ما يجب اتخاذه من قرارات. ثم لقد كان حلم عبدالناصر الكبير، وطريقه الأصيل هو التجديد... لأن التجديد وحده هو طريق الاستمرار. كان يحلم بتجديد شباب الثورة. وكان يحلم بتجديد قيادات الثورة. وكان يحلم بتجديد معايير الأداء فى كل شىء، من أبسط إجراءات العمل التنفيذى، إلى أعقد تحركات السياسة عند أعلى المستويات. كان- كما قلت- ابنا شرعياً لأمته، وابنا شرعياً للعصر ومن هنا بالضبط، إيمانه بالتجديد كطريق للاستمرار. لأن الاستمرار ليس جيلاً معيناً.. فى حياة تتعاقب فيها الأجيال. ولأن الاستمرار ليس لحظة معينة من الزمان.. فالزمان مستمر إلى الأزل. ولربما كان أحسن ما سمعت من أنور السادات فى الأسابيع الأخيرة، قوله مرة، ونحن جلوس فى شرفة بيته نحدق فى مآذن القاهرة المضيئة مع شهر رمضان: - هل تعرف ما هو أملى فى الدنيا.. أملى فى الدنيا شىء واحد.. هو أن أصل بالأمانة إلى حيث كان يريد للأمانة أن تصل.. لن أسمح بالتوقف، وإنما سوف وسوف نسير، ولتنتقل المسؤولية إلى جيل جديد.. قادر على التجديد، وذلك هو معنى الاستمرار كما تعلمناه منه». أكاد هنا أقول إن مجرد اختيار طريق الاستمرار يعنى فى حد ذاته ضرورة التجديد بغير انتظار، وذلك من قاعدة منطقية، هى أنه: «إذا كان هناك فارق بين ما كان بوجود جمال عبدالناصر، وما أصبح بعد غياب جمال عبدالناصر.. إذن فإن الاستمرار لا يمكن أن يكون تلقائياً أو أوتوماتيكياً...» ... ذلك حديث آخر موصول بما بعد الذكرى من ضرورات وضمانات. لكننى لا أستطيع أن أبتعد عن هذا المكان. وهذه ذكرى يوم الأربعين بعد الرحيل. قبل وقفة أمام مثواه. وقبل انحناءة احترام له، وقبل دمعة حنين إليه. للإنسان فيه. وليس للأسطورة. لأنه كان إنساناً عظيما لا أقل ولا أكثر.