فى واحدة من الصحف المصرية كان هناك كاريكاتير يظهر فيه شخصان، أحدهما رئيس وزراء مصرى أسبق، وشخص يمثل السفير الصينى فى القاهرة. وفى خلفية الكاريكاتير يوجد العديد من السلع المكتوب عليها «صنع فى الصين»، ويبدو رئيس الوزراء متأملاً وهو يستمع لاقتراح من السفير الصينى: «باقولك إيه، إنتم 70 مليون شخص بس، ما تيجى تتفضلوا عندنا!». والفكرة طبعاً واضحة، وهى أننا «عالة» على الصين فيما نستهلك، والأسهل والأوفر أن ننتقل نحن إلى هناك. والحقيقة أن الصين تقدم نموذجاً استثنائياً، بسلبياته وإيجابياته، لتجربة تستحق الدراسة. ويكفى أن أشير إلى أن تقريراً حديثاً للبنك الدولى أشاد بحقيقة أن 400 مليون صينى قفزوا فوق خط الفقر خلال آخر 30 سنة بفضل معدل نمو قارب ال 9 بالمائة ناتج عن سياسات مدروسة تستفيد من مصادر قوة المجتمع الصينى. وقد أشرت فى هذا العمود إلى دور الدولة فى خلق مناطق اقتصادية حرة لا تخضع للقواعد البيروقراطية المعتادة فى أى دولة مركزية عجوز مثل دولنا. ورغم أنهم فى الصين لديهم حزب واحد لا تنطبق عليه قواعد الديمقراطية المعتادة، فإنه حزب يحظى بدرجة مقبولة من المحاسبة والرقابة الداخلية وتداول السلطة بين قياداته على نحو رفع من كفاءته الاقتصادية حتى وإن ظل سياسياً بعيداً عن الديمقراطية. ومما لاحظته أن هناك درجة عالية من الإحساس بالكرامة والفخر الوطنى عند الصينيين الذين قابلتهم فى الولاياتالمتحدة، ويحرص زملائى على أن يكون لهم اتصال منتظم ومباشر بجامعات ومؤسسات بحثية صينية وبرعاية كاملة من الحكومة الصينية باعتبارهم رأسمال بشرياً لا يمكن لأمة ناهضة أن تتجاهله. إذن، ملامح المعجزة الصينية واضحة، ولكن الأسباب تظل عصية على الفهم. والإجابة من وجهة نظرى هى تفاعل الثقافة مع القيادة مع المؤسسات. منذ أن درس لوشيان باى الثقافات الآسيوية، ظهرت فى أدبيات العلوم السياسية بتعبير «ثقافة سياسية متميزة» وكانوا دائماً يدللون على أن البشر متفاوتون فى ردود أفعال الناس تجاه حوداث الدهر أو تجاه دوافع ومحفزات السلوك. وقام علماء النفس بدراسات كثيرة لاختبار صحة هذه المقولة، ووجدوا أنها صحيحة إجمالاً، مع ضوابط فى التعميم. مثلاً حين يحدث زلزال يكون رد الفعل الأوّلى عند الناس متشابهاً من حيث الفزع والجزع والحزن، ولكن هناك من يستبد به الضيق ولا يرى سبيلاً للنهوض مرة أخرى وهناك من يقاوم ذلك ويحوّل الأزمة إلى فرصة. وهذا موجود داخل كل مجتمع، ولكن تتفاوت النسب. ومن هنا أصبحنا نتحدث عن تعبير «يغلب» على ثقافة كذا صفات معينة، و«يغلب» على ثقافة كذا صفات أخرى. ولا شك أن ثقافة المصريين داخل مصر أصابها عوار جعلها ليست الأكثر ملاءمة للنهضة إلا بإعادة تأهيل الشخصية المصرية. وأرجو مراجعة تعبير «المصريين داخل مصر» لأننى من مدرسة فى التحليل السياسى تسمى المدرسة المؤسسية والتى تعوّل كثيراً على دور المؤسسات والقوانين والقواعد فى تغيير الثقافة. والأدلة كثيرة؛ المصريون خارج مصر يحترمون «مؤسسة الطابور» أكثر منهم داخل مصر. المصريون فى مترو الأنفاق كانوا يحترمون قواعد المترو أكثر منهم فوق الأرض. المصريون وهم بانتظار إشارة المرور الرقمية يحترمونها أكثر من إشارة المرور غير الرقمية. وهكذا. إذن الشعوب، والمصريون ليسوا استثناء، تتأقلم مع مؤسساتها، كما تأخذ السوائل شكل الإناء الذى توضع فيه. وهذا تحديداً ما حدث فى الصين حين بدأوا مع تساو بينج منذ أواخر السبعينات سياسات جديدة وتبنوا مؤسسات جديدة قادت المجتمع وغيرت الثقافة وبنت الدولة. إذن تخلفنا ليس قدراً محتوماً، وإنما هو نتيجة طبيعية لما كان عندنا من قيادة ومؤسسات وثقافة سائدة. والله أعلم.