رغم صغر سني إلا أنني كنت مديرة إدارة "قد الدنيا" بإحدى المصالح الحكومية المعروفة، وبالطبع فقد كان المكتب مزدحمًا بالموظفين ومكتظًا بالمقاعد التي لا تخلو أبدًا من مرتاديها، ولهذا فكان عليّ أن أكون حازمة حاسمة، نظراتي جادة وابتساماتي في حدود الحدود، ولكن لا يخلو الأمر أبدًا من أن يكون هناك موظف محبوب وآخر لا تطيق العين رؤيته، وكانت إدارتنا تشمل كل الأنواع، وأذكر منهم على وجه الخصوص مدام انشراح والتي لم يكن وجهها يبعث في نفسي أي انشراح، وخاصة وهي ترمقني من مقعدها كل يوم بفضول وتضبط وضع "البونيه" العجيب فوق رأسها استكمالاً للأناقة المفقودة. وكنت في إدارتي شخصية قوية، أما في بيتي فشخصية مختلفة تمامًا، ما إن أدخل حتى أبدأ في ممارسة واجباتي التي لا تنتهي تقريبًا؛ طبخ وكنس ومسح وكيّ يتخللهم استذكار دائم للأولاد، وكانت حياتي تسير على هذا المنوال ويتكرر كل يوم نفس الموال حتى جاءني يوم ابني البكري وبيده كتاب الرياضيات لأساعده كما أفعل كل مرة ولكنني في هذه المرة أصبت بالصدمة وانعقد لساني، فلم أفهم حرفًا واحدًا من التمرينات وبدأ ابني يهدد ويتوعّد إن رسب بسببي في الامتحانات، وأمام هذا الموقف العصيب وجدته يطلب مدرّسًا خصوصيًا وبإلحاح فرفضت متحججة بحجج كثيرة لم أذكر من بينها السبب الحقيقي، إذ كيف سأوفّر مصاريف المدرّس ومن أين لي بالأتعاب. وذهبت لعملي في اليوم التالي كتلميذ بليد، ومن شدة همي وغمي لم أنتبه لمن ألقى عليّ السلام ومن رماني بنظرة والسلام، وانتهيت من عملي على جناح السرعة ثم فتحت كتاب الرياضيات عسى أن يلهمني الله فكّ طلاسمه، وبينما أنا اضرب أخماسًا في أسداس سمعت صوتًا أعرفه يقول لي وبكل فضول "تسمحيلي أساعدك يا سيادة المديرة" رفعت رأسي بدهشة وكان وجه مدام انشراح بنظراتها الفضولية والبونيه ذو التطريزات العجيبة يتوسّط رأسها وفوجئت بها تأخذ مني الكتاب وتحلّ تمارينه بكل تمرّس، وحينما سألتها بانبهار، قالت بوجه يملأه الفخر إنها ضليعة في تمارين الرياضة والهندسة وحساب المثلثات، أفسحت لها مكانًا لتجلس بجواري وكأنها ملكة متوّجة ودعوتها لتشرب معي كوبًا من الشاي وجلست أمامها كتلميذة نجيبة أتلقى عنها دروس العلم وأنا أرى وجهها كأجمل ما يكون، ابتسامتها أرقّ ابتسامة في الوجود أما "البونيه" الذي يتوسط رأسها فكان في عيني كتاج الأميرات.