عشت طول عمرى أعمل ألف حساب لاشتغال العسكر بالسياسة (ستون عاماً مضت عشتها أراقبهم، وأرى مصر تنتقل فيها بين مطرقة الاستبداد، وإحساسها الفاجع بخروجها من التاريخ). ستون عاماً من الريبة فى كل ما كان.. انتهت بالمصريين إلى الإحساس الفادح بعدم الجدوى، والنظر بيأس إلى أى مستقبل يجىء. أذكر مبارك فى آخر أيامه، حين كان يلقى خطابه، وأتأمل ملامحه الضجرة، وهو ينظر إلى الناس بوخم عمره وأمراضه، وأتأمل أحواله وهو غير مصدق لكلمة واحدة مما يقول، وأتذكر جملته التى ذكرها فى أيامه الأخيرة عندما سأله أحد السفراء العرب وهى: أنت بالفعل ستورث ابنك حكم مصر؟! فنظر إليه مبارك ساخراً وأجابه: أورثه إيه؟!.. خرابة هذا واحد لا يستحق احترامنا؛ لأنه ينتمى لجماعة ظلت عبر ستين عاما تمارس فسادها بتحويل وطن كريم مثل مصر إلى خرابة بالفعل!! هم العسكر الذين أمضيت حياتى أراهم بصلفهم وخطاياهم المتتابعة عبر تاريخ هذا الوطن، يمارسون تمايزهم والدفاع عن مصالحهم بحجة الدفاع عن مصالح الوطن!! بعد 25 يناير، فرضت عسكرية القادة سطوتها على الثورة، وباسم حماية الناس والدفاع عنهم، والحفاظ على أمن الدولة فى الداخل والخارج، وحماية حدوده من العدو الخارجى، باشر قادة الجيش عبر عام ونصف إلقاء البيانات المطمئنة على شباب الثورة وتهيئة المناخ لاستمرارهم، وقدموا قادتهم كمدافعين عن الديمقراطية، وعن حرية التعبير، وحق الفرد فى الحماية، وأنهم أصحاب اليد الطولى فى حماية الثورة وأهدافها، وبدأوا بتشكيل اللجان: لجنة لحماية الدستور، ولجنة لكتابته، وانتخاب لمجالس نيابية، وممارسة الادعاء بتطهير البوليس، وأمن الدولة، والقبض على الفلول، والعمل على عودة الأموال المهربة، وتم الوعد بتسليم السلطة لمن انتخبه أهل الوطن. لم يتم شىء واحد من ذلك.. إلا استمرارهم فى السلطة وتم القفز على الثورة والثوار، واللعب على انقسامات الفصائل والأحزاب المدنية التى شاركت فى الثورة ودفعت ثمنا فادحا لحمايتها واستمرارها وكل ما فى الأمر هو العمل على استمرار الجيش فى السلطة وإخلاصه للنظام القديم بحماية رئيسه وفلوله. وبعد عام ونصف، دوخ الجيش شباب الثورة فى دوامة محكمة مراهناً على تعب الثوار، يمارس السياسة بوعى صاحب الحق فى الميراث والولى لنظام بائد انتقل بمصر من حال لحال. وهكذا انتهى العسكر لخيارين: ■ فتح الباب أمام عودة الماضى ورموزه وذلك بإحداث تلك المعارك والانقسامات وإصدار القوانين وتكوين اللجان حتى اليأس. ■ العمل على تنصيب القيادات العسكرية كبديل عن الحركة السياسية المصرية، لتأكيد استمرارية ثورة يوليو البائسة. لا أنسى منظرهم عبر العام والنصف الماضيين وهم يصطفون حول الموائد المستديرة ويجلسون على «كراسى» عالية تلمع على أكتافهم السيوف والنسور والنجمات وكلها تتهيأ للطيران ويناقشون بتلك الثقة التى منحها الشعوب لرؤسائها المنتخبين مصير مصر، ذلك الوطن الذى يقف على الحافة، فيما يأتى من قريب أخبار مذبحة ماسبيرو ومعركة محمد محمود وغيرهما من التجاوزات!! يأتى رئيس منتخب يؤدى العمل السياسى بمنطق خطباء المساجد ويهش جنرالات الجيش خارج سلطتهم ومستبدلاً القديم بالجديد، مستعملاً حقه الدستورى كرئيس منتخب فى إقالة قواد الجيش، وإلغاء الإعلان الدستورى المكمل وينجح فى تثبيت أركان دولته الدينية فى حماية القوى العظمى ويعطى سلطة منح النياشين والقلائد لمن لا يستحق. الآن يخرج الإخوان من قلب العسكر وتجابه مصر سطوة الدولة الدينية وتهيئ المعارضة السياسية والثقافية نفسها لدورة جديدة من الاستبداد والمصادرة وتهيئة أفق لتعود مصر حيث الأسلاف العظام الذين عاشوا يحلمون بفتح العالم يغيب العسكر الآن عن سلطة الحكم بعد أن أمضوا ستين عاما فى حماية عروش الطغاة والدفاع عن كراسى الجنرالات يباشرون فى تلك اللحظة تطهير سيناء لتصحيح أخطاء تراكمت طوال السنوات الماضية!!