«أحباب الله» حُرموا من عيده للعام الثالث على التوالى، فروا من قسوة القصف والدم والدمار فى بلاد الشام، غير أن الألم النفسى ظل يطاردهم، ظنوا أن أم الدنيا ستكون لهم ملجأ، فقد سمعوا عنها الكثير، لكن ما عانوه زاد من حزنهم، «العيد» تلك الكلمة المرادفة للبهجة التى تصل ذروتها عند الأطفال، لم يعشها طفلان منهم قدما إلى مصر قبل نهاية رمضان بأيام ليقضيا مع أهلها احتفالاتهم، فظلوا حبيسى المنازل. فى اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان أمسكت «لانا» صاحبة ال12 عاما بيد شقيقها الأصغر «حسن» 6 سنوات، وصعدوا درج الطائرة القادمة من سوريا إلى مصر، قبل أن تتوقف لبرهة لتلقى نظرة على وطن ستغيب عنه لسنوات غير معلومات، فذرفت عين الصغيرة دمعة على حاله، وحالها الذى ساء، وحيدين سافرا من دون عائل فالظروف أجبرت الأم -الناشطة سياسيا- على أن يحضرا إلى القاهرة خوفا من أن تنالهما أنياب الأسد. «هاربة من نظام الأسد وليس من القصف» تقولها ميس الكريدى -الأم- نائب منسق عام فى هيئة التنسيق الوطنية والمطلوبة من نظام بشار، أثناء حضورها مؤتمرا للمعارضة علمت بوضع اسمها على قائمة الممنوعين من السفر بمطار دمشق، فاتخذت من مصر مستقرا لها، وأوصت الأهل بإخفاء أطفالها فى محافظة «السويداء» حيث البعد عن بطش الأسد ورجاله، قبل أن تقرر إحضارهما إلى مصر. منذ عامين لم يحتفل الصغيران بالعيد فالفرحة توارت عن حياتهما وأعداد القتلى فى تزايد، كل الذى تعرفه «لانا» عن مصر أنها بلد قامت فيه ثورة تتمنى أن يلحق به بلدها، أكثر ما يحزن الصغيرة هو عدم تواصلها مع أحد، فالأم لا تعلم عن طرق المحروسة غير النزر اليسير وتخشى على أطفالها من الضياع، لذا فالمنزل وجدرانه هى معالم مصر التى لازموها فى «عيدهم»، تتذكر الصغيرة تفاصيل يوم العيد فى دمشق حيث اللعب مع رفاقها وزيارات الأقارب و«عروسة لعبة» أهداها لها الجد «عيدية» قبل سنوات، لم يشأ القدر أن تحضرها معها فقد تركت كل ما يخصها فى دمشق وجاءت إلى مصر من دون أى متعلقات، بعين منكسرة تقول الطفلة: «برغم الضرب والدمار كان نفسى أقضى العيد هناك.. عشان الشعور مختلف فى بلدى». تنظر الأم بحزن إلى طفليها التى تخشى على أيامهما القادمة: «السوريون لا يجدون ما يأكلون، يكادون يصلون لحال أطفال الشوارع. مرعوبة جدا.. لكننا نريد الصمود». ترفض «ميس» مصطلح اللجوء السياسى فمعناه أن عودتها لسوريا ستصير محالا، وتضيف عن حال السوريين فى مصر أنها تعتبر غير آمنة وغير مستقرة «كلنا فى وضع صعب مستنزفون على كل الأصعدة نتيجة الواقع المرير الذى نعيشه»، الربيع العربى الذى يطلقه البعض على الثورات السائدة فى البلاد العربية تراه الناشطة السياسية لم يحن فى سوريا ولكنها تؤكد: «نناضل من أجل النجاح». فى شقة صغيرة تسكن «ميس» مع صديقتها السورية «فريذة» التى حضرت إلى مصر قبل ستة أشهر برفقة ابنتها «إنانا»، لا يجدون سوى التليفزيون والإنترنت معينا لهم، الصديقة ملاحقة أمنيا من قبل سلطات الأسد هى الأخرى، وأكثر ما يحزنها هو ضيق اليد الذى تعانيه فوضع الأطفال داخل المدارس الخاصة مكلف جدا وأى نشاط رياضى فى أحد الأندية يحتاج الكثير من المال الذى تعانى من ندرته، «إنانا» (10 سنوات) قدمت إلى مصر منذ شهر ونصف الشهر، أسست لها الأم حسابا على موقع فيس بوك عله يساعدها على قتل الفراغ الذى تعيشه «مكنتش متخيلة إن بنت ف السن دى تتعامل مع مواقع التواصل.. بس الظروف بتجبرنا»، الطفلة الجميلة التى ترتدى فستانا تشبه فيه «سندريلا» تجد فى معظم كلماتها مصطلحات مثل «دم ودمار وشبيحة وقتلة» لذا لم يكن مستغربا أن تكون تدوينتها أول أيام العيد عبارة عن رسالة وجهتها للأسد من مصر: ارحل يا بشار يا قاتل الأطفال. تطقطق أصابعها فى حالة توتر وهى تحكى عن شقيقها الذى أفلت من رجال النظام السورى: «أخويا كان بيشترى خبز ولاحقوه الشبيحة ولكنه نجا منهم». تواطؤ عام لعدم مساعدة السوريين، هكذا ترى «ميس» حالها وأفراد شعبها، وتضيف أن هناك صمتا من قبل الحكومات ولكنها تعذر الحكومة المصرية فهى ما زالت ترمم نفسها. المسكن الذى تقطنه وفره لها «باسل الكويفى» أحد رجال الأعمال السوريين فى مصر، رغم المعاناة التى تعيشها فى القاهرة تؤكد أن العودة إلى سوريا خطر كبير: «الشبيحة قبل النظام وموجودين فى منطقة قريبة من ريف دمشق والأطفال صاروا هدف القتلة».. يتأرجح حسن على كرسيه يمنة ويسرة غير مبال بكلمات والدته الحزينة وبمجرد أن يسمع كلمة بشار يردد: «قاتل». وحين تسأله الأم عن حاله فى العيد بمصر يتأخر فى الإجابة فنصف عمره قضاه تحت رحمة القصف فيما لم يسمح له إدراكه بالإلمام بتفاصيل العيد فى مصر، إلا أنه أخبر والدته بأمنية يريد تحقيها وهى «أن يقتل الأسد نفسه».