غصة حلق مريرة خُلقت اليوم في حلقي أخذت تنمو وتكبر رويدًا رويدًا حتى أصابني الاختناق.. واحتبست الكلمات والتهبت العيون غير قادرة على ذرف الدموع فلم أكن مدربة على البكاء.. منذ الماضي البعيد لم أجد سوى وريقات بيضاء.. شرعت أخط عليها كعادتي ولكني أعلم أنني لن أرسلها إلى رؤسائي هذه المرة إنما كانت وسيلة لكسر تلك الغصة.. فقد تدربت كثيرًا على التحكم في عقلي الباطن.. وحتى في مشاعري وإحساسي، حتى أنني قد وصلت إلى أعلى درجة من المهارة والحنكة.. التي خدعت بها نفسي. لم يكن هدفي ضخمًا... لكنني كنت كما العود الأخضر.. مليء بالحيوية والنشاط والأحلام، كنت ازداد جمالاً يومًا بعد يوم... أردت أن أصبح شيئًا كبيرًا وجميلاً... يشار إليه بالبنان، لكني لم أجد الرحمة التي تعلمتها قديما من والدتي رحمها الله، لم أجد سوى القسوة والانكسار. وبدأت خطة دفاعي.. وأصبحت العميلة الأولى لدى رؤسائي، والتحقت بالجهاز بعد عدة امتحانات وتحريات مكثفة حتى أنني في أعوام قليلة كنت العميلة الميدانية الأولى، وكلفت بالمهمة.. وأصبحت زوجة ذلك الرجل صاحب المنصب الحساس والرفيع جدًّا، وأصبحت كل أسراره وأوراقه واجتماعاته في متناول يدي، وكذلك قلبه، أصبح ملكي. مرت الأعوام، وهو يتسلق سلم المجد، وأنا أواصل دفعه للوصول إلى المزيد من الأسرار والمعلومات، حتى وقعت في غرامه دون أن أدري، لكني لم أسمح بأن يقف الأمر عائقًا في سبيل عملي، وأنجبت منه طفلاً جميل المحيا، ولم أترك له مجالاً في قلبي هو الآخر.. فقد كانت المهمة صاحبة المقام الأسمى، حتى جاء خبر مرضه.... وإصابته بسرطان الرئة.. لأقف كالمشدوهة.. لا أدري ما العمل.. سأفقد زوجي.. ومهمتي.. وقطعة ثمينة أصبحت جزءًا خاصًّا من حياتي.. وبكل حزم وتحدٍ بدأت رحلة المرض والعذاب الطويلة. التحق طفلنا بالمدرسة، ومازلت أذكر نظرة السعادة التي اعتلت وجه زوجي وهو يستقبل طفلنا بعد عودته من يوم دراسته الأول، وبدأ الأمل يدب في وجهه ويشد من عزمه من جديد.. وعاد إلى عمله بحزم وصرامة وهو يقاتل من أجل الحياة، كنت أدفعه على الدوام.. وأحثه على الخطى.. وكذلك كنت أواصل عملي في صمت وهدوء... وسرية.. لكن نشاطه أصبح يشكل خطرًا على دولتي في غمرة الأحداث، وصدر القرار باغتياله. أعترض بكل قوتي.. ليسجل تاريخ الجاسوسية الواقعة الأولى في أمر اغتيال محتوم.. وأخبرتهم بمرضه وظروفه.. وذكرتهم بكل الأعوام التي نهلوا فيها عشرات الأطنان من المعلومات السرية.. وحسب التقارير الطبية.. فإن أيامه على وجه الأرض معدودة وأنه لن يرى مطلع العام الجديد. وبعد عدة اجتماعات، وافقت الإدراة على طلب الالتماس الذي تقدمت به.. وسعدت كثيرًا بأني كسبت عدة أيام بجانب زوجي.. وحبيبي.. وبعد أسبوع واحد كشف لنا القدر أن المعجزة قد حدثت وأنه يواصل طريقه في الشفاء وأن الورم يتراجع تحت إرادته الصلبة.. لم أقو على منع دموعي وأنا أحتضنه في تلك الليلة.. وظنها دموع الفرح.. لكنها كانت دموع العذاب والحيرة. وانقضت ليلتنا الأخيرة في حب طويل على الفراش لأمنحنه كل ما يتمناه شخص عاد من الموت، ليعود إليه من جديد، لأتركه نائمًا في فراشه وأنا أوقّع شهادة وفاته فقد كانت الأوامر صارمة وحتمية.. ولم يعد الاحتواء ممكنًا.. ولم يعد هناك مجال للمناقشة، فقد كان موعد التنفيذ هو هذا اليوم بيد الحب.. والمهمة الأسمى.. بيد الجاسوسة الأولى.