هل يجدى التفاوض مع صاحب «عقيدة» يرى أنه «المسلم» وغيره كافر مباح الدم والمال والعرض؟! هل الأزمة التى تمر بها البلاد أزمة «عقائدية» أم أزمة «سياسية»؟! إن التفاوض السياسى القائم على «التوازنات» والمصالح الدنيوية قد ينفع فترة من الزمن، فإذا تمكّن أصحاب «عقيدة» دينية من حكم البلاد، فإنهم لن يلتزموا بشروط هذا التفاوض، لأن عقيدتهم «المذهبية» ستكون هى الحاكمة، وما كان قبولهم لهذا التفاوض إلا «تقية» حتى يصلوا إلى حكم البلاد والسعى لإقامة الخلافة الإسلامية. وتاريخ الإسلام السياسى منذ أحداث «الفتن الكبرى» وإلى يومنا هذا خير شاهد على ذلك! وأنا هنا لا أتحدث عن السياسة، ولا عن الأزمات والتوازنات السياسية التى تمر بها البلاد، وإنما أتحدث عما أسميه ب«السِيَاسْدِين»، أى توظيف «الدين» لخدمة السياسة! لقد تمزقت أوصال الأمة الإسلامية، وأصبحت فرقا وجماعات، تدعى كل طائفة أنها «الناجية» يوم القيامة، وأصبح المسلمون على شفا حفرة من النار، بعد أن أنقذهم الله (تعالى) منها وقت أن كانوا «معتصمين بحبل الله» جميعا! إن سفك دم امرئ بغير حق، مهما كانت ملته ومهما كان توجهه السياسى، عظيم عند الله (تعالى)، فإذا كان هناك من لا يبالون بعظم هذه الكبيرة فسفكوا الدماء بغير حق، فالمسلمون، المؤمنون، لا يفعلون ذلك مطلقا! إن واقع الجماعات الدينية والمذاهب المتصارعة يشهد بأنهم تركوا «سبيل الرسول»، سبيل «الآية القرآنية»، وراحوا يتبعون سبلاً ومذاهب شتى، بعد أن امتلأت قلوبهم بالتخاصم والتكفير للمخالف لهم فى المذهب! ولكن المأساة الأكبر، والأخطر، أن ترفع كل فرقة، وكل جماعة، وكل حزب راية «الإسلام» ويجعله صفة له! فإذا كان المسلمون اليوم ملياراً ونصف المليار، فما معنى أن تظهر فيهم جماعة تسمى نفسها باسم «الجماعة الإسلامية»، وأخرى باسم «الإخوان المسلمين»، وثالثة باسم «الحزب الإسلامى»... وذلك فى غياب «الأمة الإسلامية» الموحدة؟! وما معنى أن تظهر جماعة ترفع راية «أنصار السنة»، وأخرى راية «العاملين بالكتاب والسنة»... فماذا تركوا للذين لا ينتمون إلى هذه الجماعات، ولا يعترفون بها؟! إن لفظة «جماعة» لم ترد فى كتاب الله مطلقاً! ولفظة «إخوان» لم ترد فى كتاب الله إلا وتخاطب أمة واحدة، وطائفة واحدة، وحزباً واحداً، سواء كان ذلك فى سياق الحديث عن المؤمنين، أو عن المنافقين، أو عن الشياطين. واللافت للنظر أن لفظة «إخوان» عندما جاءت فى سياق بيان فضل «الإسلام» على المؤمنين جاءت لتبيّن أنهم لم يصبحوا «إخواناً» إلا باعتصامهم بحبل الله جميعاً بعد أن كانوا على شفا حفرة من النار! تدبر قول الله (تعالى) فى سورة آل عمران: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. [103]. إن «إخوة» الإسلام {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} «إخوة» الدين الواحد، والجماعة الواحدة، والحزب الواحد. وهذه «الأخوة الإسلامية» نعمة من الله على الناس؛ فهى التى أخرجتهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، ومن «نقمة» التخاصم والتقاتل إلى «نعمة» الحب وتآلف القلوب، ولولا أن «الإسلام» جاء فأنقذهم من هذه الظلمات لظلوا فى جاهليتهم إلى يوم الدين، فهل أراد إبليس أن يعيد المسلمين إلى عصر الجاهلية؟! لذلك أقول: إن كل من انتمى إلى جماعة من هذه الجماعات ولم يعلن صراحة أمام الناس تكفيره لكل من لم يدخل جماعته، فليعلم أنه منافق، وخائن لعقيدة جماعته، ولن تنفعه «التقية»، ولن تصمد أمام كشف أهل البصيرة والعقلاء لها! لقد كان أتباع هذه «الجماعات» وراء تمزق «الأمة الإسلامية» وتخاصم أفرادها وتفرقهم، لماذا؟ لأنهم: - لا يعلمون، والله (تعالى) يقول: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. - لا يتفكرون، والله (تعالى) يقول: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. - لا يعقلون، والله (تعالى) يقول: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. - لا يسمعون، والله (تعالى) يقول: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. - لا يفقهون، والله (تعالى) يقول: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}. - لا يذّكرون، والله (تعالى) يقول: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}. - لا يشكرون، والله (تعالى) يقول: {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}. فهل تعلم أنهم ما زالوا سعداء بهذا التفرق، وهذا التخاصم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، والله (تعالى) يقول لرسوله فى سورة الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ}؟! نتدبر جيداً قوله (تعالى): {لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ}. لنعلم أنه فرض على كل مسلم أن يقول للذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وأحزاباً، وجماعات... أن يقول لهم استجابة لأمر الله (تعالى): «وأنا لست منكم فى شىء، وأنتم لستم منى فى شىء»! وطبعاً سيخرج علينا أنصار «الفُرقة»، و«المذهبية»، ويقولون: يا سيدى، دى مجرد أسماء، ماتستهلش كل الموضوع ده! أقول: إلا «الإسلام»، الذى قال عنه الله (تعالى): {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، فإذا كانت كل جماعة تدّعى أنها وحدها هى «الإسلامية» و«إخوانها» وحدهم هم «إخوة الدين»، فهذا يعنى أن الله (تعالى) لن يقبل غير «جماعتكم»، ولا غير «إخوانكم»، وباقى المليار ونصف المليار فى النار، لأنهم فى الآخرة من الخاسرين!. لقد عاش رسول الله محمد (عليه السلام) حياته يدافع عن وحدة الأمة، وعن «السلام» مع كافة الطوائف، وعن «حرية الاعتقاد»، وإقامة «الحق والعدل» بين الناس... فأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأقام خير أمة أخرجت للناس، ولم يعرف إلا سبيلاً واحداً، هو سبيل «الإسلام»، ومنهجاً واحداً هو نصوص «الآيات القرآنية»... لم يعرف فُرقة ولا مذهبية فى الدين، ولم يعرف جماعات وأحزاباً متفرقة تدعى أن سبيلها هو «سبيل الرسول»، ولو صدقوا لجعلوها سبيلاً واحداً! لقد كانت هذه «السبل» هى السبب الرئيس فى ظهور قضية «التكفير» واستحلال الدماء بغير حق بين أتباع الفرق والجماعات المختلفة. ولقد بحثت فى كتاب الله عن دليل واحد يُبيح لهؤلاء أن يكونوا على هذا الحال فلم أجد، فهل من مُعين؟