منذ الثمانينات وأنا أدعو إلى اتباع الإسلام الذى ارتضاه الله للناس، لا الذى ارتضته لهم مذاهبهم العقدية المتصارعة، التى تقوم على مرجعيات دينية متخاصمة، تستقى ثقافتها من أمهات الكتب التى دُوّنت بعد «الفتن الكبرى»، أى بعد سريان دم التخاصم والتكفير فى شرايين أتباع الفرق والمذاهب المختلفة!! إن الانتماء المذهبى العقدى يجعل أتباع المذهب يقدسون فتوى إمام المذهب دون تفكر أو تعقل أو نظر!! إن فتوى الإمام تجعل الإنسان يفجر نفسه ليسعد بالحور العين فى الجنة!! إن فتوى الإمام تبيح للفصائل المتخاصمة أن تتحالف على حساب أمن البلاد والعباد، فتسفك دماء الأبرياء بغير حق، وما أحداث كنيسة العذراء بالوراق منا ببعيد، ثم نرى بعد ذلك من يدعون إلى التفاوض مع هذا «التحالف الدموى»!! لقد كنت أحد أعضاء لجنة العشرين، «لجنة الحكماء»، التى شكلها وزير الداخلية اللواء عبدالحليم موسى، عام 1993م، لمناقشة فكرة «التفاوض»، أو «التصالح»، مع قيادات الجماعات الإسلامية التى اتخذت سفك الدماء سبيلا لتحقيق أهدافها، وكان على رأس هذه اللجنة فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى. وفى اجتماعنا الأول مع الوزير قلت فى كلمتى: إن المتهم الحقيقى فى هذه القضية هو فتاوى «التخاصم والتكفير» التى حملتها أمهات كتب التراث الدينى، والتى تُسفك بسببها الدماء بغير حق. وفى هذا الاجتماع تم الاتفاق على تشكيل لجان تقوم بزيارة قادة الجماعات الإسلامية فى السجون لإجراء حوار معهم!! وبعد انتهاء الاجتماع بساعات أقيل وزير الداخلية، الذى كان يلقب ب«شيخ العرب»!! فهل رأت القيادة السياسية أن التفاوض مع القتلة يُضعف هيبة الدولة؟! والسؤال: هل يجدى التفاوض مع صاحب عقيدة يرى أنه هو المسلم الحق وغيره كافر مباح الدم والمال والعرض؟! هل الأزمة أزمة «سياسية»، أم أزمة «عقدية»؟! إن التفاوض السياسى القائم على «التوازنات»، و«المصالح الدنيوية»، إن نجح يوما فلن ينجح طول الزمان!! إن فصائل الإسلام السياسى (المتخاصمة أصلا) عندما تتفاوض فإن ذلك يكون على أساس مبدأ عقدى عندهم اسمه «التقية»، لتحقيق مصالح تراها ضرورية لبقائها، فإذا تمكّن فصيل يوما من حكم البلاد فإنه سيلقى بهذا التفاوض فى المهملات، لأن عقيدته أولا وأخيرا هى الحاكمة، وسيعلنها حربا لإقامة الخلافة الإسلامية فى الأرض! فى عام 2003م، أعددت دراسة عن أزمة التخاصم والتكفير بين المسلمين، وقمت بتوزيعها على بعض علماء الفرق الإسلامية المختلفة، للاستفادة من آرائهم، وذلك قبل إصدار النسخة النهائية ونشرها على العامة. وقد حذرت فى هذه الدراسة من تفرق المسلمين إلى مذاهب عقدية وتشريعية متخاصمة، ومن أن يأتى يوم يَحكم فيه البلاد مذهب من هذه المذاهب، لأن ذلك معناه أن تعود البلاد إلى عصر «الفتن الكبرى»، عصر الصراعات المذهبية، واستحلال سفك الدماء دفاعا عن «المذهب»!! وبدون دخول فى تفاصيل التحديات التى واجهتها بعد توزيع هذه الدراسة على العلماء، يهمنى أن أذكر فى سياق الحديث عن «فتاوى» التخاصم والتكفير، موقف «مجمع البحوث الإسلامية» من هذه الدراسة.. لقد أصدر «مجمع البحوث الإسلامية» قرارا بمصادرة هذه الدراسة (التى لم تكن معدة للنشر أصلا) بدعوى أننى منكر للسنة النبوية!! وللعلم: قرار المصادرة يعنى «الحبس»، ويتم ذلك عن طريق جهاز «أمن الدولة»!! أى أن «الفكر» عندهم يقابل ب«الحبس»، أليس هذا هو «التطرف الدينى» بعينه؟! إن القاتل الحقيقى ليس هو وحده الذى يقتل، وإنما أيضاً الذى يفتى بالقتل!! لقد صادر «مجمع البحوث الإسلامية» هذه الدراسة وهو يعلم أن نتيجة هذه المصادرة هى «الحبس»!!، وفى حوار دعا إليه الدكتور موسى شاهين لاشين، وكان يشغل منصب رئيس مركز السنة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، طلبت من رئيس اللجنة التى أعدت تقرير المصادرة أن يأتى بجملة من هذه الدراسة فيها إنكار للسنة النبوية فلم يستطع، والحوار منشور على موقعى، وأرسلت منه نسخة وقتها إلى من يهمه الأمر. إن الذى أحدث هذا اللبس عند أنصار «المذهبية» أنهم يساوون بين «شخص الرسول»، الذى عاصره قومه، وسمعوا منه مباشرة، وبين «المرويات» التى دُوّنت بعد قرن ونصف قرن من وفاته، وخضعت للتصحيح والتضعيف، وللجرح والتعديل.. فهل يستويان يا أولى الألباب؟!! إن أنصار «المذهبية» يعتبرون «المرويات» ظنية الثبوت عن رسول الله مصدرا للسنة النبوية، وأنا أعتبر القرآن الذى هو قطعى الثبوت عن الله تعالى مصدرا للسنة النبوية، ولى فى هذا الموضوع موسوعة بعنوان «السنة النبوية حقيقة قرآنية، قبل ظهور الفرق والمذاهب»، تقديم الأستاذ الدكتور عبدالصبور شاهين، صدر منها الجزء الأول. إن تحريم قتل النفس بغير حق جاءت به جميع الرسالات الإلهية، فمن قتل نفسا بغير نفس كمن قتل الناس جميعا. إن الإفتاء القائم على «مرويات» منسوبة إلى رسول الله فتح باب سفك الدماء بغير حق على مصراعيه!! فمرة تسفك الدماء بدعوى إنكار «السنة»، وأخرى بدعوى إنكار ما هو «معلوم من الدين بالضرورة»... وهكذا!! وسأضرب مثالا واحدا يبين كيف توظف «المرويات» لخدمة «المذهب العقدى» لصاحب الفتوى. فمن كتاب «الفتاوى» لابن تيمية (ت 652ه) أنقل ما يلى: سُئل: عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلى النهار لأشغال لهم من زرع، إلى آخره. فأجاب: «ومن أخرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته بل يجب قتله عند (جمهور العلماء) بعد أن يستتاب فإن تاب والتزم أن يصلى فى الوقت ألزم ذلك. وإن قال لا أصلى إلا بعد غروب الشمس، لاشتغاله بالصناعة أو الصيد أو غير ذلك فإنه يقتل». وسُئل: عن رجل جار للمسجد، ولم يحضر مع الجماعة الصلاة، ويحتج بدكانه. فأجاب: «الحمد لله، يؤمر بالصلاة مع المسلمين فإن كان لا يصلى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل». وسُئل: عن رأيه فى من خالف مذهبه الفقهى، فقال فى قضية صلاة السفر: «ومن قال إنه يجب على كل مسافر أن يصلى أربعا فهو بمنزلة من قال: إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان، وكلاهما ضلال مخالف لإجماع المسلمين يستتاب قائله، فإن تاب وإلا قتل». وأنا لست مع تأخير الصلاة عن موعدها، ولا مع الانشغال بغيرها عنها، ولكن الله تعالى لم يرتب عقوبة دنيوية على ذلك.. أليس هذا هو التطرف الدينى المذهبى بعينه؟!! وبعد أن أباح ابن تيمية دم المخالفين لمذهب «أهل السنة»، انتقل إلى دائرة أوسع فحكم أيضاً بإراقة دم الداعى إلى البدع فى الدين، فعند حديثه عن الجهاد قال: ومن لم يندفع فساده فى الأرض إلا بالقتل قُتل، مثل «المفرق لجماعة المسلمين» و«الداعى إلى البدع فى الدين»!! تدبر هذه الجملة الأخيرة، فإذا كانت كل طائفة تعتبر نفسها هى «جماعة المسلمين»، ومسألة «البدع فى الدين» مسألة مذهبية، تراها كل طائفة حسب أصول مذهبها، إذن فمسألة سفك الدماء بغير حق مسألة تخضع لهوى أنصار «المذهبية»!! لقد اخترقت المؤسسات والمجامع العلمية الدينية فى العالم الإسلامى بقيادات وأعضاء يحملون هذه «الفتاوى» القائمة على فكر التخاصم والتكفير، والآن نراهم يحملون مبادرات التفاوض والتصالح!! إن الذى يُفتى ب«السجن» لمن خالف مذهبه، لا مانع أن يُفتى بقتله بتهمة إنكار «السنة»، أو بسبب اختلاف الهوية، أو لتحقيق مكاسب سياسية، أو للوصول إلى كرسى الحكم لإقامة الخلافة فى الأرض.. فأين حرمة الدماء يا «مسلمون»؟! لقد فاحت رائحة دماء الأبرياء، ووصلت إلى العالم أجمع بسبب فتاوى التخاصم والتكفير التى حملتها أمهات كتب المذاهب الفقهية للمسلمين، وتحرسها المؤسسات الدينية وتدافع عنها، وتحبس من يكشف عنها ويُظهر عورتها!!