لم تمنعه إعاقته من خوض معترك الحياة بما فيها من صعوبات، قرر أن يتحدى ظروفه ويزلل كل ما يقابله من عقبات الواحدة تلو الأخرى، رفض أن يستسلم للظلام وآثر أن يقطف النور بيديه. مصطفى الكومي.. فقد بصره بعد أشهر من ولادته، خرج من رحم أمه قبل أن يتم شهره السابع، واستلزم الأمر دخوله إحدى الحّضانات ليستكمل نموه، وتسبب الإهمال الطبي هناك في زيادة كمية الأكسوجين عن النسبة الطبية المطلوبة ما أدى إلى تلف كلي في شبكية العين، لتبدأ رحلته مع حياة حكمت عليه أن يعيش فيها دون أن يرى أيا من مباهجها أو مساوئها. يروي مصطفى 24 سنة، أنه فتح عينيه على الدنيا ليجد نفسه وسط مجتمع لا يجيد التعامل مع ظروفه، فتارة ينفرون منه فيشعرونه بالخجل، وتارة يشفقون عليه فيقتلعون ثقته من جذور نفسه، ولكنه سرعان ما استطاع تغيير وجهة نظر الوسط المحيط به والتعامل معه كأي شخص عادي لا ينقصه شيء دون النظر لظروف فقده لبصره. تعلم القراءة والكتابة بطريقة "برايل" في سن الخامسة، والتحق بمدرسة طه حسين للمكفوفين وتجاوز فيها مراحله التعليمية الثلاثة، وتكون في نهاية مطافها شاهدا على أولى خطواته لتحقيق ذاته، حيث حصل على المركز الأول على مكفوفي الجمهورية عام 2006، وقرر أن يلتحق بكلية دار العلوم لعشقه للغة الضاد ورغبته في أن يضيف لها شيئا جديدا لم يسبقه إليه غيره. حياة الجامعة الواسعة لم ترهب الشاب الكفيف، بل دخل عليها متحديا غير عابئ بنظرات يشعر بها صوبه تكفي لقتل الأمل في قلبه، "الأمر الأول الذي واجهته بعد دخولي الجامعة هو عدم وجود الكتب الدراسية بطريقة برايل، وكان الحل هو استبدال القراءة بالسمع وتسجيل الكتب على شرائط بمعاونة بعض الزملاء، لكن حينما وجد الأساتذة مني استعدادا للتفوق العلمي بادروا بمساعدتي، وقرروا أن يعطوني كتبهم الدراسية عن طريق الكومبيوتر لأتمكن من طبعها بطريقة برايل". 4 سنوات قضاها مصطفى بالجامعة، لم ينل خلالها تقديرا غير "الامتياز"، ولم يتأخر ترتيبا عن "الأول على الدفعة"، فكان قرار مجلس كليته بتعيينه معيدا بالكلية، ويكون ضمن هيئة تدريسها. يقول مصطفى إن التعامل مع طلابه كان أمرا "في منتهى السهولة"، حيث يقوم بجمع المادة العلمية بشكل جيد عن طريق مواقع البلاغة والأدب على الإنترنت، والتفاعل مع الطلاب داخل المحاضرة عن طريق عرض المعلومات عبر برامج "الداتاشو"، ولم يجد أي اختلاف في تعامل الطلاب معي عن أي أستاذ آخر. المركز العلمي المشرف والراتب المادي المجزي لم تكن آخر طموحات الشاب الكفيف، بل قرر أن يكتب سطرا جديدا من سطور قصة تحديه، حيث شرع في إعداد رسالته للحصول على درجة "الماجستير"، واختار الأسلوب السردي في روايات الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله ليكون موضوع رسالته، "عبد الحليم عبد الله من رواد الاتجاه الرومانسي في الرواية العربية، ولم يتم تناوله إلا في كتاب واحد فقط، وهذا ما دفعني لاختياره ودراسته". يوجه مصطفى الكومي، في ختام حديثه، رسالة لكل من في ظروفه، فينصحهم بالتحلي بالإيمان بالله، والثبات على تحقيق الهدف والثقة الأكيدة في قدراتهم الداخلية، ولا يعبأ بأي صورة سيئة عن المكفوفين داخل المجتمع، لأن "الإنسان هو من يصنع صورته أمام الناس".