فى اللحظة التى صرخ فيها عثمان (رضى الله عنه) بمقولة: «لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله»، عاد مفهوم «قدرية الحكم» الذى رسخه أبوبكر الصديق (رضى الله عنه) فى اجتماع السقيفة إلى الظهور من جديد. فالحكم من وجهة نظر عثمان (رضى الله عنه) جاءه بقدر من الله، ولا يذهب عنه إلا بقدر الله، وأنه خليفة الله! هنا رفع المصريون راية الخروج على الخليفة وهددوا بالمواجهة الدامية، وضربوا حصاراً حول منزله و«استشار عثمان نصحاءه فى أمره، فأشاروا عليه أن يرسل إلى على يطلب إليه أن يردهم ويعطيهم ما يرضيهم، ليطاولهم حتى يأتيه إمداده. فقال: إنهم لا يقبلون التعلل، وقد كان منى فى المرة الأولى ما كان. فقال مروان: أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك، فإنهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم. فدعا علياً فقال له: قد ترى ما كان من الناس ولست آمنهم على دمى، فارددهم عنى، فإنى أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسى وغيرى. فقال على: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، ولا يرضون إلا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم أولاً عهداً فلم تف به فلا تغرنى هذه المرة. فقال: أعطهم فوالله لأفينّ لهم. فخرج على إلى الناس فقال لهم: أيها الناس إنكم إنما طلبتم الحق وقد أعطيتموه وقد زعم أنه منصفكم من نفسه. فقال الناس: قبلنا فاستوثق منه لنا فإنا لا نرضى بقول دون فعل. فدخل عليه على فأعلمه فقال: اضرب بينى وبينهم أجلاً، فإنى لا أقدر على أن أرد ما كرهوا فى يوم واحد. فقال على: أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول أمرك. قال: نعم، فأجلنى فيما فى المدينة ثلاثة أيام، فأجابه إلى ذلك، وكتب بينهم كتاباً على رد كل مظلمة، وعزل كل عامل كرهوه. من جديد تصدى على بن أبى طالب للأمر ولعب دور الوسيط بين عثمان بن عفان والمتمردين على حكمه، ولم يسمع النصيحة التى نصحها له العباس مراراً بالابتعاد عن الأمر حتى يولوه، لكن عذره هذه المرة كان قائماً، فقد كان يحاول حماية خليفة المسلمين، ويجتهد فى حل المشكلة التى يمكن أن تتفاقم حقناً لدماء المسلمين. وقد كان حل هذا المشكل بسيطا للغاية حدده على بن أبى طالب (رضى الله عنه) فى العدل، حين قال: «الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك»، لكن هيهات بعد أن أصبحت الثقة مفقودة بين الخليفة والرعية، بسبب عدم تنفيذ الوعود، وعدم تصديق الأفعال للأقوال. وقد مضت الأيام الثلاثة التى ضربها الخليفة كأجل للاستجابة لمطالب الثائرين دون أن يتغير فى الأمر شىء، فثار الناس من جديد، وخرج عمرو بن حزم الأنصارى إلى المصريين فأعلمهم الحال، وهم بذى خشب، فقدموا المدينة، وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم. فقال: والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن. فأبى عليهم، فحصروه واشتد الحصار عليه. وقد تواصل الحصار مدة أربعين يوما، منع فيه الماء عن عثمان (رضى الله عنه) . ولما خاف الثائرون من انتهاء موسم الحج وقدوم الناس إلى المدينة بالإضافة إلى توقعهم مجىء جند الخليفة من الولايات فى أى وقت، قرروا اقتحام دار عثمان من الدور التى حولها، وغلبوا عليه وندبوا رجلاً يقتله، فتراجع الرجل تلو الرجل عن ذلك، بسبب فداحة الفعل. «وكان آخر من دخل عليه ممن رجع محمد بن أبى بكر، فقال له عثمان: ويلك أعلى الله تغضب؟ هل لى إليك جرم إلا حقه أخذته منك؟. فأخذ محمد لحيته وقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال: لست بنعثل ولكنى عثمان وأمير المؤمنين. فقال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان! فقال عثمان: يا ابن أخى فما كان أبوك ليقبض عليها. فقال محمد: لو رآك أبى تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك، والذى أريد بك أشد من قبضى عليها! فقال عثمان: أستنصر الله عليك وأستعين به! فتركه وخرج. فلما خرج محمد وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حمران والغافقى، فضربه الغافقى بحديدة معه وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف واستقر بين يديه وسالت عليه الدماء، وجاء سودان ليضربه، فأكبت عليه امرأته واتقت السيف بيدها، فنفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت، وضرب عثمان فقتله». إلى عفو الله ورحمته قضى عثمان (رضى الله عنه)، وكما يذكر ابن كثير أن الناس استطالوا حياته فملوه مع فضله وسوابقه. ويبدو أن طول الأمد بالحاكم يؤدى به إلى نهايات مأساوية، هكذا قضت سنة الله وقوانين التاريخ.