كان المصريون هم أشد الناس ثورة على عثمان بن عفان (رضى الله عنه)؛ لأنهم كانوا الأشد ضرراً مما لحق بهم، فى ظل واليه «عبد الله بن سعد بن أبى سرح» الذى أهدر النبى (صلى الله عليه وسلم) دمه يوم فتح مكة، وكان من بين ثلاثة استثناهم النبى من العفو العام، يوم قال لأهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». تدفقت أعداد من المصريين نحو المدينة، «فخرج إليهم على بن أبى طالب ومحمد بن مسلمة، فكلماهم فعادوا ثم رجعوا، فلما رجعوا انطلق إليهم محمد بن مسلمة فسألهم عن سبب عودهم، فأخرجوا صحيفة فى أنبوبة رصاص وقالوا: وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الصحيفة، يأمر فيها بجلد عبدالرحمن بن عديس، وعمرو بن الحمق، وعروة بن البياع، وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم، وصلب بعضهم. وقيل: إن الذى أخذت منه الصحيفة أبوالأعور السلمى. فلما رأوه سألوه عن مسيره وهل معه كتاب فقال: لا. فسألوه فى أى شىء هو، فتغير كلامه، فأنكروه وفتشوه وأخذوا الكتاب منه وعادوا، وعاد الكوفيون والبصريون. فلما عاد أهل مصر أخبروا بذلك محمد بن مسلمة، وقالوا له: قد كلمنا علياً ووعدنا أن يكلمه، وكلمنا سعد بن أبى وقاص وسعيد بن زيد فقالا: لا ندخل فى أمركم. وقالوا لمحمد بن مسلمة ليحضر مع على عند عثمان بعد الظهر، فوعدهم بذلك، فدخل على ومحمد بن مسلمة على عثمان فاستأذنا للمصريين عليه، وعنده مروان، فقال: دعنى أكلمهم. فقال عثمان: اسكت فض الله فاك! ما أنت وهذا الأمر؟ اخرج عنى! فخرج مروان، وقال على ومحمد لعثمان: ما قال المصريون؟ فأقسم بالله: ما كتبته ولا علم لى به. فقال محمد: صدق، هذا من عمل مروان». يحكى النص السابق وقائع ما جرى بين المصريين وعثمان عندما قدموا شكاواهم إليه -فى حضور عدد من الصحابة- فوعدهم بتغيير سياساته، فرجعوا إلى بلادهم، وفى طريق عودتهم اكتشفوا تلك الرسالة الموقعة باسم الخليفة والموثقة بخاتمه، يدعو فيها عثمان الوالى فى مصر إلى جلد الثائرين وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم، وكان ذلك -كما قال محمد بن مسلمة- من عمل مروان بن الحكم أحد أفراد بطانته من بنى أمية، وهو أحد خلفاء الدولة الأموية فيما بعد. ولما أشكل الأمر كما يحكى «ابن الاثير»: «حلف عثمان إنه ما كتب ولا أمر ولا علم. فقال على ومحمد: صدق عثمان. قال المصريون: فمن كتبه؟ قال: لا أدرى!. قالوا: يجترئ عليك ويبعث غلامك، وجملاً من الصدقة، وينقش على خاتمك، ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم؟ قال: نعم. قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب! فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حق، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تخلع نفسك لضعفك عن هذا الأمر وغفلتك وخبث بطانتك، ولا ينبغى لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه وغفلته، فاخلع نفسك منه كما خلعك الله! فقال: لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله، ولكنى أتوب وأنزع. قالوا: لو كان هذا أول ذنب تبت منه قبلنا، ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى، وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك. فقال: أما أن أتبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلىّ من ذلك، وأما قولكم تقاتلون من منعنى فإنى لا آمر أحداً بقتالكم، فمن قاتلكم فبغير أمرى قاتل، ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا علىّ أو لحقت ببعض أطرافى. وكثرت الأصوات واللغط. فقام على فخرج، وأخرج المصريين، ومضى على إلى منزله، وحصر المصريون عثمان». المشهد السابق يعكس الحال التى وصل إليها أمر الحكم أواخر أيام عثمان (رضى الله عنه)، ولعل أبرز ما يميز تلك الحال هو الضعف الواضح الذى بدا من الخليفة فى مواجهة رعيته بسبب الورطات التى وضعته فيها بطانته من بنى أمية، وعلى رأسهم مروان بن الحكم، واستخفافهم بالخليفة وكتابتهم الرسائل باسمه وإمهارها بخاتمه، وحشدها بالأوامر للولاة لقمع المضادين لحكمه. وقد وجد المصريون أن أمر الرسالة التى اكتشفوها يستأهل خلع الخليفة؛ لأنه مع صدقه فى نفى أنه كاتبها، فإن ذلك لا يعفيه من الخلع بسبب ضعفه وغفلته واستخفاف بطانته به.