أخبرنى حارس العقار، الذى تقع فيه عيادتى فى الشارع الفاصل بين ميدان التحرير وميدان عبدالمنعم رياض، أن الذين احتلوا سطح العمارة من البلطجية فى موقعة الجمل الشهيرة شرعوا فورا فى تدخين الحشيش بالجوزة وفى تعاطى البرشام بينما كانوا يلقون بكرات النار وقنابل المولوتوف على المتظاهرين. وزعم البعض أن البلطجية يأخذون أجورهم نقدا أو فى صورة مخدرات، وهذا سبب آخر للالتفات لمشكلات تعاطى المخدرات وإدمانها، فلأى مدى تنتشر الظاهرة فى مصر؟ وهل هناك ما يمكن عمله تجاهها؟ نشرت وزارة الصحة المصرية مؤخراً النتائج النهائية لبحث قيّم عن مدى انتشار استخدام وتعاطى المواد المغيرة للحالة المزاجية فى مصر وعن توزيع هؤلاء المستخدمين والمتعاطين. بداية، هذه الدراسة التى تم تجميع معلوماتها بين عامى 2007 و2008، بإشراف أستاذنا أ. د. عماد حمدى رئيس قسم الطب النفسى فى جامعة القاهرة وقتها، هى من أهم وأدق الدراسات من نوعها ليس فى مصر فقط بل فى العالم العربى كله، وهى تقف على مستوى مثيلاتها فى العالم وتتخطى كثيرا من مشاكل الدراسات السابقة خاصة الدراسة المنشورة فى عام 1996. كانت النتائج المبدئية قد أعلنت فى عام 2010 وأشارت أن هناك 6 ملايين مصرى يعانون من بعض المشاكل من تعاطى المواد المغيرة للحالة المزاجية (المخدرات والخمور وغيرها) و2.5 مليون آخرين يعانون من مشاكل جسيمة، حيث اتضح من العينة الضخمة (38 ألف وستمائة وثمانية مواطنين اختيروا عشوائيا من 14 محافظة مصرية) أن نحو 7% من مجموع السكان يستخدمون المخدرات والمواد الأخرى المغيرة للحالة المزاجية بما فيها الكحول بصورة منتظمة أو يعانون من مشاكل متوسطة من تعاطيها، وبحسبة بسيطة، وبناء على أن تعداد السكان الآن نحو 85 مليونا نرى أن هذا العدد يساوى نحو 6 ملايين مواطن، بينما يعانى من مشاكل جسيمة من هذه المواد مليونان وأربعمائة ألف آخرون (2.8% من عينة البحث)، أى أن نحو 10% من مجموع الشعب المصرى يعانون من نوع ما من مشاكل المخدرات والخمور، أو يستخدمونها بانتظام. ولكن النسبة بين الذكور ترتفع إلى نحو 25% بينما تنخفض إلى 7% فقط بين الإناث. كما تشير الدراسة إلى أن 39% من الذكور و13% من الإناث يستخدمون هذه المواد أحيانا أو بانتظام أو تسبب لهم مشاكل جسيمة إلى متوسطة. وهذا لا يعنى إطلاقا أن كل هذا العدد «مدمنون»، بل الأرجح بناء على نتائج البحث أن عدد المعتمدين على المواد المغيرة للحالة المزاجية (المدمنين) لا يتجاوز 2% من السكان (مليون و700 ألف مواطن) وأن عدد من يستخدمون الحقن المخدرة منهم يدور حول المليون، وهذا الرقم لا يختلف كثيرا عن المعدلات العالمية ولا يدعو للفزع لكنه بطبيعة الحال يدعو للاهتمام الشديد ويتطلب التحرك العاجل. واللافت أيضا فى هذه الدراسة هو ما أظهرته من أن الغالبية العظمى ممن يعانون من مشاكل مع المخدرات هم من بين الطبقات الفقيرة: نحو 60% بينما نحو 40% من الطبقة المتوسطة وأقل من 0.1% من الطبقات العليا، أى أن الصورة النمطية عن «الشاب المدمن الثرى» و«الذى أفسدته كثرة المال مع غياب القيم» هى صورة خاطئة تماما فى الواقع المصرى. متعاطى المخدرات فى مصر فقير وغير متعلم و«طحنته ظروف الحياة». فإذا علمنا أن معظم خدمات العلاج من الإدمان باهظة التكاليف وأن خدمات الوقاية المبنية على أساس علمى تكاد تكون منعدمة، أدركنا خطورة الموقف لا من الناحية الصحية فقط بل من الناحية السياسية ومن ثم الاقتصادية أيضا وبامتياز. علينا أن نشرع فورا فى تنفيذ برامج تأهيل فعالة للمدمنين والمتعاطين الفقراء تتعامل مع الظاهرة بوصفها مشكلة طبية نفسية اجتماعية وروحية (كونية/وجودية) ولا بد فيها من تطبيق برامج فعالة متكاملة إن شئنا تجنب كوارث صحية وأمنية، بل وإن شئنا أصلاً إنجاز انتقال ديمقراطى وتحقيق أهداف الثورة ذاتها، كما يتبدى فى التقاطع بين ظاهرتى التعاطى والبلطجة، وهذا حديث آخر.