عام من حكم الإخوان، لم يمر إلا وقد ترك تأثيره السلبى على المجتمع؛ استقطاب حاد، تأليب البعض على الآخر، تمييز وفقاً لاعتبارات الانتماء إلى الأهل والعشيرة، رفض للحوار، عدم تقبل الاختلاف، استخدام أسلوب فرض الأمر الواقع بالقوة، سيادة خطاب الكراهية، تغليب أساليب العنف... والنتيجة شعور بالتهديد، انعدام للأمان، فقدان للأمل، غياب للتفاؤل، تراجع معدلات الرضا. عام من محاولات الاختراق الواسع لمؤسسات الدولة حتى لو اضطروا لهدمها، المهدَّدُون فى ظل الحالة الثورية يدافعون عن أوضاعهم بالقوة، يجبرون الآخر على الاستماع لمطالبهم بالصوت العالى، وتلبية احتياجاتهم بالضغط، كل طرف يتصورها لحظة للتغيير، ويسعى إلى أن يحقق أكبر قدر من المكاسب. ومن اللافت أن أكثر المؤسسات التى تعانى الانقسام حالياً هى الأكثر تعرضاً للتهديد والوعيد من «مرسى» وجماعته. سقوط الإخوان ربما أزال الخطر، لكنه لم يوحِّد، بل دفع كل قطاع أو فئة إلى محاولة تحقيق مصالحها الذاتية ولو على حساب الوطن.. قضية سياسية اجتماعية لها أولوية التناول. أولاً: الانقسام داخل القضاء: بدأ الإخوان محاولات اختراق القضاء منذ نهاية الستينات، اخترقوا تيار قضاة الاستقلال الذين اعترضوا على فرض أو مد حالة الطوارئ خلال مؤتمر العدالة 1986، ثم نزلوا إلى الشارع2005 احتجاجاً على تزوير الانتخابات. ومع نجاح «مرسى» فى الوصول إلى الحكم كشف القضاة الإخوان عن وجودهم «قضاة من أجل مصر»، واحتلوا مواقع مهمة، وخططوا لإعادة هيكلة القضاء، وإحالة 3500 قاضٍ للتقاعد وإحلال محامين إخوان بدلاً منهم، ومع تصدى نادى القضاة لذلك بدت مؤسسة القضاء فى حالة انقسام وصراع داخلى حاد. ورغم سقوط «مرسى» وبدء اتخاذ إجراءات تأديبية ضد القضاة المسيَّسين، فإن مظاهر الانقسام قد تضاعفت؛ النيابة الإدارية تسعى لسحب «القضاء التأديبى» من مجلس الدولة، باعتبار أن توليه تلك المهمة كان مؤقتاً لأنه أنشئ 1946 قبل إنشاء النيابة الإدارية ب8سنوات، أما هيئة قضايا الدولة فقد طلبت سحب مهمة مراجعة العقود الإدارية من مجلس الدولة، وقرر نادى الهيئة منع أعضاء المجلس من دخوله، كما حذفت النيابة الإدارية أسماء أبناء قضاة مجلس الدولة من كشوف تعيينات 2009، وقررت عدم قبول أى من أبناء أعضائه فى الدفعات المقبلة، وذلك رداً على قرار مجلس الدولة بمنع دخول أعضاء النيابة الإدارية ناديهم، ومطالبته بعدم إدراج النيابة الإدارية ضمن باب السلطة القضائية فى الدستور، نادى القضاة يقف سلبياً فى مواجهة ذلك الانقسام، بل يضاعف الأزمة ويشعبها بطلب أن تكون ميزانية القضاء رقماً واحداً فى ميزانية الدولة، محاولات لرأب الصدع يبذلها رئيس الجمهورية، ولكن حتى بافتراض نجاحه فى تجاوز الأزمة مرحلياً فإن عمق أسباب ومبررات الانقسام ربما تنعكس على وحدة هذه المؤسسة وقدرتها على أداء دورها فى إقرار العدالة الناجزة. ثانياً: الانقسام داخل الإعلام: كانت برامج التوك شو إحدى أدوات كشف الفساد والتعبئة الجماهيرية لثورة يناير، ازداد عددها بعد الثورة، لكن توجهاتها عكست حالة الانقسام والاستقطاب داخل المجتمع، وإن ظل التوجه الأكبر والأشهر والأكثر جماهيرية هو الإعلام الخاص المعارض لاختطاف الإخوان للدولة، فكان من أهم أدوات التعبئة لإسقاط حكمهم. وجاء 30 يونيو محاولاً تخفيف حدة الاستقطاب بين الفضائيات بإغلاق العديد من القنوات المتطرفة، غير أن الانقسام قد ازداد نتيجة لعوامل مهنية ومادية. سقط الرئيس الإخوانى بنظامه بعد أن كان مادة ثرية للتحليل والانتقاد والسخرية، وهو ما كان مصدر جذب للمشاهدين، ولأرباح الإعلانات. البعض فضل أن يظل معارضاً من منطلق أن المعارض أكثر اجتذاباً للاهتمام. والآخر غلّب الأخلاقيات مؤيداً لنظام الحكم البديل، وللمؤسسة العسكرية التى انحازت للإرادة الشعبية، وكان من الطبيعى أن يؤدى ذلك إلى تعميق الانقسام، وتبويب القنوات والصحف والإعلاميين فى فئات على نحو ينتهك المهنية والأخلاقيات. ثالثاً: الانقسام داخل الجامعات: ليس وليد الأزمة الراهنة، لكنه نتاج تراكمات أخطاء الدولة منذ السبعينات، عندما منحت حرية العمل للجماعات الإسلامية فى مواجهة النشاط اليسارى، لكن ما فعله الإخوان مؤخراً تجاوز ظاهرة الانقسام والصراع إلى الجرائم الإرهابية، الأساتذة من أعضاء التنظيم يحملون المنشورات والشعارات والألعاب النارية والمولوتوف داخل سياراتهم ليستعملها الطلاب الإخوان، ناهيك عن تحريضهم على العنف. أما الطلبة -أبناء الفقراء الذين يشكلون غالبية الطلاب بكليات الجامعة- فقد تباروا فى هدم وإحراق وتخريب قاعات المحاضرات، وتحطيم الأجهزة، ومقاعد الدراسة، وكأن سقوط الإخوان أسقط مبرر تلقى العلم، وقضى على أى أمل فى مستقبل الفرد أو الوطن، وأنهى مبرر استمرار المؤسسات التعليمية. حالة خروج على المجتمع والقانون، وتطرف يثير المخاوف على مستقبل الأزهر الوسطى، وحقد وغل مكانه عيادات الأطباء النفسيين، وجلسات العلاج الجماعى. رابعاً: الانقسام داخل «حركة تمرد»: بعد سقوط «مرسى» ونظام الإخوان ظهر اتجاهان داخل حركة «تمرد»؛ الأول: يرى أن الحركة أسست لهدف واضح نجحت فيه، ولا يجب أن تذهب إلى أبعد منه إلا فى حدود الضغط لتحقيق أهداف الثورة وعبور المرحلة الانتقالية بنجاح. الثانى: تمسك بضرورة «مَأْسَسَة» الحركة وإعادة هيكلتها لتصبح كياناً سياسياً، وبالفعل استقال عدد من القيادات الممثلة للاتجاه الأول (محب دوس، المتحدث باسم الحركة، دعاء خليفة...). أما قيادات الاتجاه الثانى، فقد اعتبرت أن توقيع 22 مليون على استمارة «تمرد» بمثابة تأييد للحركة وتفويض لها كشريك سياسى فى المرحلة الانتقالية، إلى الحد الذى عارضوا فيه الإعلان الدستورى مستنكرين صدوره دون مراجعتهم، ثم محاولتهم فرض مرشحين للوزارة! واستمر تبنى هذا التوجه إلى أن بدأت مطالبات بفصل ممثلى الحركة فى تأسيسية الدستور لتبنيهما مواقف دون الرجوع إلى القواعد (تأييد المحاكمات العسكرية للمدنيين - استمرار مجلس الشورى - الانتخابات المختلطة - كوتة العمال والفلاحين - قبول المواءمات بشأن مواد الهوية - الإعلان عن خوض الانتخابات البرلمانية وسط مؤشرات تحالف مع فلول الوطنى المنحل...)، حاولت الحركة تجاوز ذلك الخلاف بإعلان انفصال محمود بدر ومحمد عبدالعزيز بحجة عضويتهما بالتأسيسية، إلا أن الأخيرين نفيا ذلك، فتوالت استقالات المكاتب التنفيذية بالمحافظات (أسيوط - سوهاج - المنوفية - الغربية...)، بسبب الانحياز للسلطة والسعى وراء مكاسب شخصية والتعاون مع الوطنى المنحل. «تمرد» بالنسبة للشعب المصرى تمثل الشباب صاحب «الحل العبقرى» الذى تجاوز اليأس من إمكانية التغيير على أيدى الأحزاب والقوى السياسية، وهى رمز ملهم للرافضين لحكم الإخوان فى الدول العربية، والانقسام داخلها يعكس تأثيراته السلبية على الأمل فى الشباب، وإمكانية العبور إلى المستقبل. خامساً: الانقسام داخل الحكومة: سيطر الانقسام على الحكومة إلى الحد الذى أصابها بالشلل، ووصمها بالارتعاش. نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية لم يبد أياً من كراماته كخبير اقتصادى، لكنه تسلم راية الدعوة للمصالحة من «البرادعى»، والنتيجة، التأخر فى تنفيذ حكم الأمور المستعجلة 23/9 بحظر جماعة الإخوان وحل جمعيتها وكافة المؤسسات المنبثقة عنها ومصادرة أموالها، ما سمح للجماعة بالتصرف فى مقراتها بالمحافظات، وأرصدتها فى البنوك. ووزير التعليم العالى ظل أسيراً لموقفه السابق -كمعارض ثورى للحكومات السابقة- بشأن الحرس الجامعى، رغم اختلاف الظروف ومستوى العنف داخل الجامعات، فعجزت الحكومة عن التوافق على صيغة لعودة الحرس، ورغم أن خسائر التخريب داخل الجامعات تقدر بعشرات الملايين. مناقشة قانون التظاهر شهدت مشادة بين «زياد» ووزير الداخلية، وتم حجز القانون بالرئاسة لتعديله. الخلاف حول هذا القانون مقدمة للخلاف حول قانون مكافحة الإرهاب المتوقع عرضه قريباً، لتضمنه بعض التدابير الصارمة ضد ممارسة العنف الذى تنتج عنه حالات وفاة، كذلك هو مقدمة للخلاف حول قانون تقييد تلقى منظمات المجتمع المدنى تمويلاً من الخارج. هذا العجز وفر المناخ الملائم للترويج لاحتمالات إقالة الحكومة، وهذا فى حد ذاته يضاعف من تردد الحكومة وارتعاشتها، وهو أبعد ما يكون عما يتطلبه الموقف الراهن من حسم وحزم لوضع حد للسيولة الراهنة فى الوضع السياسى والاقتصادى والأمنى. سادساً: الخلافات بين النيابة والشرطة: تحولت النيابة منذ عدة سنوات إلى قطاع متميز يجمع أبناء كبار أعضاء الهيئات القضائية، إضافة إلى كبار المسئولين وأصحاب النفوذ بالدولة، لذا من الطبيعى أن نتوقع منهم بعض التصرفات الاستعلائية. أزمة مع المحامين 2010، بعد اشتباك بين محامين ووكيل نيابة بطنطا، عطلت سير العدالة نتيجة لإضراب المحامين بعد حبس زملائهم، وتتكرر المشكلة نفسها فى أكتوبر 2013 باشتباك بين رئيس نيابة ساقلتة بسوهاج وأمين شرطة، لاعتراض الأول على مضمون المحضر الذى حرره الثانى لحادث تصادم بين سيارة رئيس نيابة آخر وميكروباص، لتتطور الأزمة بقرار النيابة حبس نائب المأمور ونقيب آخر و3 من الأمناء بتهمة التطاول على النيابة، وتقرر محكمة جنح مستأنف أخميم رفض طلب الاستئناف، فتعلن القوة الأمنية لمركز شرطة ساقلتة الإضراب عن العمل، ويقرر نادى أمناء وأفراد الشرطة بسوهاج -بالتنسيق مع النادى العام بالقاهرة- سحب جميع الخدمات المكلفة بحراسة مقرات النيابة واستراحات أعضائها على مستوى المحافظة، وتهديداً بالتصعيد على مستوى الجمهورية. أزمة نتجت عن عدم إدراك بأن بعض المناصب وقراراتها ومعالجاتها للأمور -حتى الشخصية- هى انعكاس لرصانة وخبرة وإدراك مدى حساسية المنصب، لا محاولة توظيف حصانته وصلاحياته فى نفوذ واستعراض للقوة. *** ليست تلك كل مظاهر الانقسام، لكنها مجرد نماذج، وهناك أخرى عديدة.. عدم توفيق التأسيسية فى محاولتها إلغاء كوتة العمال والفلاحين -رغم قناعتى بحتمية إلغائها- فالتوقيت غير مناسب، والظروف قد تسمح باستغلال ذلك فى التحريض على الدولة، خاصة مع ما أثاره تعيين عضو بديل لممثل الفلاحين الذى توفى -رغم وجود العضو الاحتياطى- من هواجس وشكوك.. ممثلو الأحزاب الليبرالية فى الدستورية منقسمون بين نظام الانتخاب الفردى والقائمة، وخلفهم أحزاب منفصلة عن الشارع تنتظر الإشارة لتبدأ الاتصالات والمساومات والتحالفات والصفقات مع قيادات قبائلية وعشائرية وفلول وإخوان، ما سيؤدى إلى عدم اختلاف تركيبة المجلس المقبل عن سابقيه، رغم أن الفرصة متاحة لهم لتغيير نظام التصويت ليصبح بالمجمعات الانتخابية -وهو النظام المتبع فى الولاياتالمتحدة- الذى نحن أحوج ما نكون إليه، حتى نحد من تأثير الرشاوى الانتخابية وشراء أصوات الفقراء والأميين. *** ليست حالة تشاؤمية، ولا نظارة سوداء يرتديها كاتب المقال، لكنه التزام بالموضوعية فى نقل الواقع والمتوقع للقارئ ولصانع القرار.. تشخيص الحالة أول مراحل علاجها، الانقسام علاجه التوحد، ورأب الصدع دواء للانشقاق.. مصر تمر بلحظة فارقة، وعلى كلٍّ أن يؤدى ما عليه، وفاءً لوطن يستحق ومواطن أحق.