من المهم أن نعرف من الذى يقطع المعونة العسكرية عمّن؛ فالبعض يعتقد أن أمريكا هى التى قطعت المعونة العسكرية عن مصر، لكن الحقيقة غير ذلك تماما؛ فمصر هى التى قطعت المعونة عن أمريكا. ولكى نفهم القصة لا بد من أن نحكيها من أولها؛ فأمريكا أيها الأحباب هى التى تصنع الحلوى التى تتسبب فى تسوس الأسنان ثم هى التى تعطيك الدواء لعلاج ذلك التسوس، ومن هذا المنطلق فهى تصنع الداء وتحتفظ لنفسها بحق إنتاج الدواء، وهذه هى نظرية «كامب ديفيد»؛ فهى تمنح إسرائيل جسراً فضائياً لنقل الدبابات والعربات المدرعة فى حرب 73 إلى السويس ثم إذا حوصرت إسرائيل فى السويس أو تكاد تختنق فيها بعد أن دمرها شعب السويس فهى تتدخل لوقف الحرب ثم تمنح إسرائيل مرة أخرى قبلة الحياة بالجلوس على مائدة المفاوضات وتلتزم أمريكا بتقديم السلاح للطرفين، وبذلك تتمكن من المحافظة على التفوق الإسرائيلى على مصر، فإذا اعتمدت مصر على السلاح الأمريكى الذى يأتى عن طريق المنح تحكمت أمريكا فى قطع الغيار، وبالتالى فهى تتحكم فى القدرة العسكرية المصرية، ومن هنا فهى تصنع المشكلة ثم تجعل الحل فى يدها ثم جاءت ثورة 30/6 وتدخلت القوات المسلحة المصرية لإنقاذ الأمر وظن البعض أن القوات المسلحة المصرية قد أنقذت مصر من حكم فاشل، بينما الحقيقة أن القوات المسلحة قد أنقذت مصر من المخالب الأمريكية التى نجحت على مدى عام من حكم الدكتور مرسى أن تطبق الفصل الأول من خطتها من تغيير معالم المنطقة، لكن القوات المسلحة المصرية وجهت إليها ضربة قاصمة، وذلك عن طريق المفاجأة من النوع الثقيل، وذلك بتدخل القوات المسلحة طاعةً لقرار الجماهير، إلا أن أمريكا أرادت أن توجه ضربة مقابلة للجيش المصرى فقطعت عنه ما يسمى «المساعدات العسكرية»، وجزء من هذه المساعدات يتمثل فى الأسلحة الأساسية التى يعتمد عليها الجيش المصرى والكثير من أنواع قطع الغيار، فهل نجحت أمريكا بتلك الضربة فى أن تقدم إحراجاً سياسياً للجيش المصرى ولحكومته، أم أنها نجحت أيضا فى تقديم قارب النجاة إلى الدكتور مرسى قبل محاكمته؟ التحليل السياسى العادى يقر بهذه المقدمات، لكن التحليل السياسى المتأنى قد يجد فى هذا القرار أنه ضربة عسكرية توجهها أمريكا إلى صدرها؛ فمن الصحيح أن أمريكا ترسل أسلحة إلى الجيش المصرى، لكنها تقدم الجيل الثانى من هذه الأسلحة التى تم العدول عنها فى الأجيال التالية، ومن الصحيح أيضا أن أمريكا حينما تقدم أسلحة إلى مصر فهى تضمن من خلال التحكم فى أنواعها وقدراتها الهجومية أن تحسم أكثر من تسعين فى المائة من نتائج أى حرب مستقبلية تكون مصر طرفا فيها، ومن هنا فإن أمريكا فى الحقيقة لا تقدم السلاح إلى مصر وإنما تقدم التحكم فى مصر. وقد نجحت أمريكا فى ذلك، طوال عصر «مبارك»، كما نجحت فى اتباع نفس السياسة مع الرئيس مرسى؛ فقد كان الاثنان من أتباعها، لكنها لم تنجح فى اتباع ذات الطريق مع الوضع بعد 30/6؛ ذلك أنها وجدت من الفريق السيسى شكلا آخر يميل إلى محاولة التخلص من سيطرة السلاح الأمريكى على الفلسفة العسكرية المصرية، حتى إن المرء لا يظن أن الفريق السيسى كان متوقعا لمثل هذا القرار، أو بمعنى أدق كان مرحبا بهذا القرار؛ ذلك أن الاستغناء عن السلاح الأمريكى، ولو فى حدود معينة، يعنى تغيير الفلسفة العسكرية لمصر؛ فالتفوق الروسى والصينىوالإيرانى فى صناعة الصواريخ أمر قد غيّر من شكل المنظومة العسكرية فى العالم كله، فذهبت إسرائيل إلى بناء حائط الصد الصاروخى الذى لم يثبت نجاحه حتى الآن، وذهب حزب الله إلى التحدث بثقة مصدرها القدرة الصاروخية التى يحملها حزب الله على أرضه، وعجزت أمريكا عن إفشال إيران فى مخططها النووى؛ وذلك لعلمها بأن الصاروخ الإيرانى يصل إلى تل أبيب لو أراد، ومن هذا المنطلق فإن الدخول فى مجال التسليح السوفيتى يعنى استخدام التكنولوجيا الروسية والصينية بالانضمام إلى معسكر الصواريخ بعيدة المدى، وأنا فى الحقيقة لا أتحدث عن معلومات عسكرية دقيقة، بل إن ذلك من الأمور التى أصبح يعرفها من يتابع الحروب العربية دون جهد، فقد انتصر حزب الله على إسرائيل ببضع مئات من الصواريخ وانتصرت إيران على أمريكا بصواريخها بعيدة المدى التى تم ضبط أجهزتها بدقة على تل أبيب وقد استعادت روسيا وضعها الدولى بعد أن أتقنت وتخصصت فى صناعة الصواريخ فأصبح العالم ينقسم إلى قسمين: قسم يعتمد على التسليح الأمريكى بتقنياته القديمة، الذى لا يتعدى تصديره حدود الطائرة «إف 16» وقسم آخر يعتمد على التسليح الروسى والصينى، وهو الذى ينبغ فى حرب الصواريخ طويلة الأمد. لذلك فإن أمريكا الآن تمر بأكبر مرحلة قلق، ولذلك فإننا نتوقع خمس نتائج وتوقعات لهذه السياسة الأمريكية الفاشلة. أما التوقع الأول فهو أن أمريكا سوف تبحث عن الحمائم فى حكومتها لكى يتدخلوا لإلغاء هذا القرار غير الذكى على أن تظهر الصورة وكأنها حمائم عودة العلاقات المصرية - الأمريكية. وأما التوقع الثانى فهو أن الدكتور مرسى سيكون كبش الفداء لعودة العلاقات الأمريكية - المصرية وستتم التضحية بمساندته، وذلك مقابل إحياء عملية التفاوض المصرية - الأمريكية، وذلك ليس من أجل عيون إعادة العلاقات الثنائية مرة أخرى وإنما من أجل عيون إنقاذ الخطة الأمريكية التى تم إبرامها مع الدكتور مرسى بشأن سيناء أو على الأقل تعليق مثل هذه الخطة دون إعلان فشلها حتى تمر التحقيقات التى يجريها الكونجرس مع «أوباما» بشأن ما أنفقه «أوباما» من تمويلات سرية غير مقننة بالاتفاق مع نظام الدكتور مرسى، فضلا عن وقف التعامل المصرى - الروسى الذى بدأت معالمه فى الأفق. أما التوقع الثالث فهو أن روسيا لن تسمح بأن تفقد هذه الفرصة؛ فنحن نتوقع أن تتلقى الموانئ والمطارات المصرية أول دفعة تسليح روسية فى غضون الأسابيع المقبلة. وفى النهاية فإن النتيجة الرابعة تتمثل فى دخول الصين على خط التسليح بقوة، وأعتقد أن الصين سوف تقوم بعقد أكبر منحة تسليحية إلى مصر. أما التوقع الخامس فهو وكعادة أمريكا أنها ستظهر أكبر قدر من النذالة الأمريكية التى هى السلاح الحصرى الذى لا ينتج إلا فى أمريكا؛ ذلك أنها ستعلن قريبا أنها تركت الدكتور مرسى للمحاكمة العادلة.