يجهد الغرب نفسه فى محاولة تصوير الوضع الراهن فى مصر على أنه نوع من حكم العسكر، يتخفى خلف حكومة مدنية، فرضه انقلاب عسكرى أطاح بحكم الرئيس المنتخب، وقتل المئات واعتقل الآلاف من أنصاره، واستبعد فصيلا سياسيا مهماً جريرته الوحيدة خروجه فى تظاهرات سلمية تطالب بعودة الشرعية الدستورية، وأن المصريين بإجماعهم الراهن على ترشيح الفريق السيسى رئيسا للجمهورية، يؤكدون انحيازهم للاستقرار وقوة الحكم بديلا عن قيم الديمقراطية! حتى لو كان الثمن مزيدا من القيود على حرية الرأى والتعبير، ومزيدا من الضوابط على حرية الحركة والعمل السياسى، التى تضيق مساحته بصورة تنذر بعودة الأمور إلى سيرتها الأولى، كما كان حال مصر تحت حكم الرئيس الأسبق مبارك! ومع الأسف لا تخجل صحافة الغرب، التى تتحدث كثيرا عن أصول المهنية وضرورة الحرص على الحيدة والموضوعية والصدق، من الإلحاح على هذه الصورة الكاذبة التى تنفيها وقائع حاسمة شارك فى صنعها عشرات الملايين من المصريين، يشكلون الغالبية العظمى لهذا الشعب، يعرفون جيدا أن الحقيقة عكس ما تقوله صحافة الغرب، ويحمدون الله أن تخلصوا من حكم جائر اعتبروه بمثابة احتلال جثم على صدورهم كان يخطط لأن يستمر 500 عام، ويعملون الآن على إزالة آثار عدوانه، دون أن يهمهم كثيرا ماذا تقول صحافة الغرب، التى يصيبها فى الأغلب نوع من فقدان الذاكرة المتعمد، يدفعها إلى إسقاط أحداث ووقائع بعينها، تشكل علامات مهمة فى مسيرة الثورة المصرية كى تقدم لقرائها قصة شائهة ملخصها أن المصريين لم يحتملوا الحكم الديمقراطى لجماعة الإخوان المسلمين، ولم يطيقوا صبرا على الرئيس المنتخب، وهم يبدأون من جديد دورة حكم عسكرى تستعيد ستينات القرن الماضى، تستبدل عبدالناصر بالسيسى، وتستعد لخوض معركة «دون كيشوتية» مع الغرب والعالم أجمع، لكنها تقطع على نفسها مسيرة حكم ديمقراطى صحيح، فى الوقت الذى تعانى فيه البلاد من غياب الأمن والاستقرار، وضعف الناتج الوطنى، واستمرار عمليات المواجهة فى سيناء يستنزف الأمن والجيش المصرى. ومع الأسف تنسى الصحافة الغربية وهى تلوك قصتها المعادة، مشهد الثورة المصرية فى 25 يناير وقد شملت كل المصريين يطالبون بالخبز والحرية والكرامة، وكيف انتهى الأمر إلى استئثار فصيل سياسى واحد بالسلطة، فى غمرة مرحلة انتقالية غابت عنها الشفافية وسادها الارتباك والغموض، وتنسى الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس الديمقراطى المنتخب ليعطى نفسه سلطات إلهية، تحصن قراراته فى الماضى والحاضر والمستقبل من الطعن عليها أمام القضاء، فى سابقة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، كما تنسى خروج ملايين المصريين إلى الشوارع والميادين وحصارهم الشهير للقصر الجمهورى اعتراضا على ديكتاتورية مرسى، وتنسى عمليات التعذيب التى تعرض لها المعارضون للإعلان الدستورى إلى جوار أسوار القصر الجمهورى وتحت بصر وسمع رجال الرئيس، كما تنسى صراعات الرئاسة مع كل مؤسسات الدولة، وحصار أنصارها للمحكمة الدستورية العليا ومدينة الإعلام، والأنكى من ذلك تجاهل الصحافة الغربية التام لتحالف جماعة الإخوان المسلمين مع تنظيمات القاعدة والسلفية الجهادية، لضرب أمن مصر فى سيناء، وسكوتها المتعمد على إطلاق الرئيس المنتخب سراح مئات المدانين فى قضايا إرهاب صدرت بشأنها أحكام نهائية، وصمتها عن تظاهرات الإخوان المسلحة على كوبرى 6 أكتوبر التى كانت تخرج بصورة يومية من اعتصامى رابعة والنهضة، يسبقها حملة الخرطوش والأسلحة الآلية، يطلقون الرصاص على الناس فى الشوارع ويحتلون مآذن المساجد، والأكثر مدعاة للدهشة نسيان الصحافة الغربية لحق المصريين فى تصحيح ثورتهم التى خربتها جماعة الإخوان المسلمين، وخروجهم العظيم فى 30 يونيو فى ثورة ثانية يطالبون فيها بإنهاء حكم المرشد وإسقاط الرئيس المعزول، لأنهم لم يعودوا يطيقون صبرا على طغيان جماعة الإخوان التى استأثرت بالحكم والنفوذ والسيطرة على مقدرات الاقتصاد الوطنى. ومع الأسف لم تتعامل الصحف الغربية مع أى من هذه الوقائع المهمة بالجدية والموضوعية والحيدة المطلوبة، وظلت تردد حتى الآن أسطوانتها المشروخة عن الانقلاب العسكرى الذى قاده الفريق السيسى ضد الرئيس المنتخب، الذى يعرف الجميع أنه نجح فى الانتخابات الرئاسية على (الحركرك)رغم تكتل كل أصوات تيارات الإسلام السياسى خلفه، ورغم أنه حصل على نصف مليون صوت غير مستحقة أعطاها له عاصرو الليمون من الشباب واليسار والمتحذلقين الذين اعتبروا الانتخابات الرئاسية يومها مفاضلة بين الكوليرا والطاعون، فى الوقت الذى توزعت فيه أصوات أنصار الدولة المدنية على عدد من المرشحين المتنافسين رغم برنامجهم الواحد، لم يحسنوا جميعا إدارة المعركة الانتخابية! ومع ذلك اعترف الجميع بما فى ذلك القوات المسلحة بشرعية الرئيس المنتخب، ووقفوا إلى جواره على أمل أن يكون رئيسا لكل المصريين، لكن مرسى الذى اختار أن يكون مجرد لعبة فى يد مكتب الإرشاد، خيب آمال الجميع، وحول حكمه إلى مسخ بليد يدعو إلى السخرية والرثاء! ولا أظن أن شعبا قام بثورتين فى غضون عامين ونصف العام، وأصبح شريكا أساسيا بل أقوى الشركاء فى تقرير مستقبل بلاده، يمكن أن يقبل من جديد حكما أوتوقراطيا تحت زعامة الجنرالات كما تتوقع صحافة الغرب أو تحت قيادة المرشد العام لجماعة الإخوان كما يريد الأمريكيون، لأن غالبية المصريين تنحاز إلى دولة مدنية يسودها حكم القانون، ونظام ديمقراطى يقوم على انتخابات حرة ونزيهة يراقبها المجتمع الدولى، يحكمه دستور جديد يحظى برضا الغالبية العظمى من الشعب، تتحقق به سيادة الشعب على كل مقدراته ومؤسساته بما فى ذلك القوات المسلحة، وتعى كل بنوده الدروس المستفادة من تجربتين مهمتين فى الحكم، تجربة يوليو وتجربة جماعة الإخوان المسلمين، ويضع ضمن بنوده حدودا واضحة لسلطات الرئيس المنتخب ومدة حكمه ومسئولياته وصلاحياته بما يضمن توازن السلطات ويمنع توغل السلطة التنفيذية على بقية السلطات، كما تؤكد بنوده على منع قيام الأحزاب السياسية على أسس دينية، وتنظم العلاقات بين السياسة والدين بما يحفظ الحدود الواضحة لكل منهما، وتعتبر حقوق المواطنة ومسئوليتها جزءا من هوية كل مصرى، لا يجوز الانتقاص منها بسبب الدين أو اللون أو الجنس. ولا أظن أن مظاهر الحب والحفاوة التى يحيط بها الشعب المصرى شخصية الفريق السيسى تنبئ عن مولد ديكتاتور جديد كما تروج صحافة الغرب؛ لأن المصريين لن يقبلوا ديكتاتورا جديدا حتى وإن كان السيسى، ولأن السيسى يعرف جيدا كواليس حكم يوليو على الرغم من أنه ينتمى إلى جيل مختلف، ويعرف أيضاً تفاصيل محنة جماعة الإخوان، ويعرف حجم التغيير الضخم الذى طرأ على عالمنا وجعل الديمقراطية أفضل الخيارات وأكثرها رشدا، وهو يصر على ضرورة التنفيذ الكامل والأمين لخارطة الطريق وصولا إلى دولة مدنية قانونية ديمقراطية، فضلا عن أنه لا يزال يرفض الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، بينما تصر غالبية المصريين على ترشيحه، لأنهم عرفوه وجربوه ووجدوا فيه المنقذ والبطل الذى يمكن أن يحقق المعادلة الصعبة التى تجمع بين الاستقرار والديمقراطية، فضلا عن أنهم يرون فى كل الشخوص التى تؤهل نفسها لهذا المنصب المرموق بقايا معركة انتخابية رئاسية قديمة، يصعب على أى منهم أن يتحصل على إجماع وطنى يضمن له الفوز. وقد لا نعدم وجود طابور من المنافقين يسعى إلى إفساد الحكم كما هو الحال فى كل الدنيا، وربما يكون من المفيد أن تجد الدولة المصرية تحت حكم الرئيس المؤقت حلا موضوعيا لمشكلة النفاق الذى يفسد عمل النخبة كما يفسد كثيرا من الرجال، لا يصادر على عواطف الجماهير تجاه بطل حقيقى احترم إرادة الشعب المصرى وساعد على إنفاذها، وإنما يمنع تجار النفاق من ابتذال شخصية البطل، ويقتصد فى الدعاية لأن الاقتصاد فى الدعاية هو خير دعاية، ويقضى على صناعة الفرعون خاصة أن اثنين من فراعين مصر يحاكمان الآن فى التوقيت نفسه، تأكيدا على أن كل شىء قد تغير فى مصر!