هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام دولة الحق والعدل، ولكنه تعرض لألوان من الأذى لا حصر لها، فواجهها بروح التسامح العجيب. فى غزوة أحد، ضربه أحد المشركين واسمه عبدالله بن قماءة -أقمأه الله- وأصابه المشركون حتى شجُّوا وجهه، وكسروا أسنانه، وسال الدم الشريف على الوجه الشريف، وحفروا له حفرة وقع فيها، فقام وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمّ اغْفِرْ لِقَوْمِى فَإِنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» (متفق عليه) انظر ما فى هذا القول من حسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على السكوت عنهم، حتى عفا، ثم أشفق عليهم، ورحمهم، ودعا، وشفع لهم، فقال: «اللهم اهد واغفر لقومى»، ثم اعتذر عنهم لجهلهم، فقال: «إنهم لا يعلمون» صلى الله عليك يا رسول الله، الدم لا يزال يسيل، ولكن لسانه لا ينطق إلا بالدعاء بالهداية والمغفرة! أى عظمة هذه! وها هو فى عز سلطانه، يأتيه حبر من أحبار اليهود يختبر حلمه، وهو زيد بن سعنة، وكان له دين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال زيد: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته فأخذتُ بمجامع قميصه وردائه، ونظرتُ إليه بوجه غليظ، فقلت له: ألا تقضينى يا محمد حقى؟ فوالله ما علمتم يا بنى عبدالمطلب سيئ القضاء مَطْل (أى مماطلون)، ولقد كان لى بمخالطتكم علم. ونظرت إلى عمر فإذا عيناه تدوران فى وجهه كالفلك المستدير، ثم رمانى ببصره، فقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتصنع به ما أرى؟ فوالذى بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربتُ بسيفى رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: «يا عمر أنا وهو كُنّا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر» فيكون ذلك سبباً فى إسلام زيد الذى قال: لم يكن من علامات النبوة شىء إلا وقد عرفته فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه «هل يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً» فقد اختبرتهما. (أخرجه الحاكم)