كنت محرراً فى مقتبل الصحافة.. رحت أتسلل فى سراديب ديوان وزارة الزراعة.. «القصر» بلغة يوسف والى.. كان اكتشاف صحفى من جريدة معارضة فى زمن الجنزورى الأول مصيبة محققة ستنزل على رأس المصدر الذى ينتظره فى ترقب وخوف.. حتى لو يكن الصحفى نفسه معارضاً.. كانت المرة الأولى لى فى معقل أمين الحزب الحاكم ونائب رئيس الحكومة.. وكان النسيان من نصيب الوصفة التى خطها المصدر «المهم» لمكتبه.. فإذا بى أسارع مع تصاعد الإحساس الأمنى بوجود تحركات مريبة من الحرس داخل المبنى لاقتحام أول غرفة مشرعة الأبواب خلقت للتو أمام عينى.. وكهارب ليس يدرى من أين أو أين يمضى وجدتنى فى قلب الغرفة الخاوية على عروشها إلا من رجل طاعن السن.. يجلس على كرسى متكبر يتطاول برأسه على هامة الشيخ التى انكفأت على فنجان قهوة.. وحيداً. لم يرفع الرجل عينيه نحوى، ما منحنى سكينة مؤقتة بالنسبة لهارب.. وأدركت بحاسة محقق صحفى «شرير» أن الرجل يهمل ما يجرى حوله عقاباً لمن أهملوه.. ووضعوه فى هذا المنفى المقبض.. ولا أحد إلاه فى هذا المدى «المسفوح» للأعداء والنسيان.. تماما كأنه خرج من قصيدة درويش طازجاً.. طال بى شغفى بالمشهد الشعرى بامتياز.. وتنبهت.. فبادرته مستفسراً عن مكتب موظف لا أظنه خلق بعد.. فرفع جبهة متثاقلة وقال «ماعرفش يابنى».. بادلته تحية الابن وتراجعت إلى الباب وأنا ألملم تفاصيل الصورة التى عصفت بإحساسى للحظات.. وما إن هدأت العاصفة وأنا أسند ظهرى إلى باب غرفته حتى عادت لى ذاكرتى البصرية.. أليس هذا الرجل أحد قادة حرب أكتوبر العظام.. ها أنا أمسك ببقايا ملامحه من صور مواسم الطلعة الجوية فى الصحف.. ومشاهد عابرة فى القناة الأولى قبل عصر السرد الفضائى.. نبهنى رأسى الملقى للخلف على واجهة الباب بنقرة ألم رهيف.. إلى أن لافتة نحاسية محفورة وراء ظهرى.. فالتفت. لتلقى وحى السماء بالإجابة.. بخط رقيق الحال كساكن الغرفة.. عبارة «الفريق عبدالمنعم واصل». نعم؟.. صرخت فى نفسى.. هل وقفت للتو بين يدى قائد الجيش الثالث البطل فى حرب أكتوبر.. هل طاردنى حرس الوزارة وعسس الوزير من أجل مقابلة مع موظف كبير.. بينما لم يهتم أحد لاقتحامى عرين هذا الأسد.. ثم صرخت ساخطاً وبصوت عال هذه المرة «أى إهانة ألحقتها بالأبطال يا مبارك!».. لأتحول من لحظتها إلى صحفى معارض كصحيفتى.. وأنا أخطو نحو الشيخ الذى غادرته بشعور واحد فعدت إليه بجيش من المشاعر المختلطة من الزهو إلى الخجل.. ومعها أسئلة لا تنتهى صنعت بينى وبين الرجل قصة لم أروها حتى اليوم. عبادة على