كلتاهما تعيش وحيدة، واحدة قدمت من بعيد لتعيش أيام البركة فى رحاب سيدنا الحسين، والثانية عاشت فى رحابه 80 عاماً، وكانت زيارتها الأخيرة له قبل 20 عاماً، تحولت من بعدها لمجرد رأس يطل من شباك الغرفة الأرضية، لا تقوى على نزول 4 درجات سلم، لتطل على الشارع. «أم هاشم» سيدة تخطت ال60 عاماً، لا تختلف كثيراً عن «أم محمد» التى أتمت عامها ال80، وجوه تشابه كثيرة تجمعهما، لكل منهما اسم ولد غير موجود، فأما الأولى، أم هاشم، فقد اختار والدها هذا الاسم تيمناً ببركة السيدة زينب، أما الثانية «أم محمد» فظلت تحمل اسم وليدها الذى رحل وهو فى الثالثة من عمره، ولم تنجب غيره لتصبح أماً لكل أطفال العائلة والجيران. لا تعرف إحداهما الأخرى، تشابهت ظروفهما على البعد، تعيش أم هاشم محتمية بجدار مسجد «أم الغلام»، على مجموعة من أجولة فارغة تجمعها طيلة مدة بقائها فى القاهرة لتبيعها فى بلدها، وتفرش بطانيتها الصوف وتغط فى نوم عميق، تعرف أن لا أحد سيؤذيها طالما بقيت فى الرحاب مجاورة، ليست ممن يمدون أيديهم لزائرى الأولياء ولكنها «صاحبة بركة» تحل دوماً على من تدعو له، ويُحرم منها من كانت دعواتها عليه فتصب لعنات على رأسه تحملها الملائكة فيغضب لها الله.. «ما باتحركش من مكانى ولا بامدّ إيدى لحد وليا رزق ربنا كاتبهولى ويبعتهولى لحد عندى»، لا تطمع فى أكثر من أجرة السيارة التى تقلها من القاهرة وإليها، وسوى ذلك لا يخصها، فهو «منه له» حسب قولها: «دى بركة الأولياء، ودى عطاياهم فتترد لهم وربنا يبارك فى القليل»، واثقة هى من البركة التى حملتها يوم أن زارت أمها عقيلة بنى هاشم لتحمل بها بعد عشر سنوات عجاف وتلد بعدها خمسة من الذكور، لكن شاء الله أن تحمل هى «البركة» بحسب تعبيرها: «أول بذرة ربنا حطها بعد شفاعة السيدة زينب، وعشان كده ربنا حارسنى ورازقنى ورازق كل اللى حواليا»، كان قرارها بالبقاء فى القاهرة حتى انقضاء عيد الأضحى مخالفاً لما اعتادت عليه كل عام: «كنت باجى مولد الحسين وأمشى وآجى مولد السيدة، وبعدين آجى على رمضان، لكن السنة دى ربنا ما أردش إنى أروح له، حكمته إنى أقعد لحد العيد».. انتظارها للعيد فى رحاب سيدنا الحسين لا يختلف عن انتظار «أم محمد» المطلة دوماً من شباكها الأخضر تنادى على المارة أن يأتوها بقطعة جبن من الدكان القريب، مصرّة على دفع ثمنها رغم إلحاح البعض.. «إحنا فى حتة ما حدش فيها يبات جعان ولا خايف»، مروءة أهل المنطقة مع الست أم محمد «جارتهم القديمة» لا تختلف عن مروءتهم مع الست أم هاشم «المجاورة القديمة». «لا زوج ولا ولد» هكذا عاشت «أم هاشم» بعد طلاقها من زوجها بسبب عدم إنجابها، بينما عاشت «أم محمد» بعد وفاة زوجها قبل 15 عاماً وولدها قبله بأكثر من 40 عاماً، كلتاهما لم تشأ أن تخبر عن الراحل «مطلّقاً أو متوفى»، فكلمة واحدة تكفى كما قالتها أم محمد، «الله يرحمه» لا تختلف عن «ربنا يسهّل له طريقه ويسامحه»، كما تحدثت أم هاشم: «اللى آذانى، ربنا عالم بيه، واللى حصل من زمن ماعدتش بافتكره». لا تسأل واحدة منهما عن «لحمة العيد»، فهما لا تقويان على طبخها وإعدادها، لكن الله لا ينساهما.. «ربنا مش بينسانا، ومفيش حد بياكل أكتر من طاقته»، أم هاشم التى تحرص على أن تشارك فى ضيافة زوار الأولياء ولو بكيس سكر وباكو شاى لا يهمها أن تأكل «لحمة العيد»، فطبق عدس من أكل الرحاب يكفيها، وزيارة لمستشفى العيون هى جلّ همهما قبل مغادرة القاهرة بعد العيد، وكذلك أم محمد التى أراحت ظهرها لحديد الشباك سارحة فى الملكوت: «مين عارف هنعيش ليوم العيد والا لأ».