على الكنبة «الوحيدة» جلس عم شاكر فاغراً فاه فى انتظار أن يعرف ما يدور حوله، ففى جوار زوجته الأولى يفضل أن يجلس، ليس كرهاً فى الثانية لكنه الهدوء بعيداً عن «دوشة العيال» أو بالأحرى «مطالبهم»، يستمع فقط ولا يرد سوى فى أضيق الحدود، لا تعرف من نظراته الزائغة إن كان واعياً أم لا، يده الرطبة تذكرك عند السلام أنه لم يزل حياً وأن شرائط الأدوية المبعثرة تحت مرتبة الكنبة نجحت ولو مؤقتاً فى أن تبعد عنه شبح الاستسلام للنهاية. فى الزمن الغابر تزوج «شاكر» «ترّاب الدهب» بالست عواطف وأنجب 6 من الأولاد وبنتاً، وفى الزمن الغابر أيضاً أعاد الكرة وتزوج بالثانية وأنجب ثلاثة صبية وبنتين، لم يفكر الرجل «الكسيب» وقتها فى أن الأيام قد تدير له ظهرها، وأن الزمن لم يعد يؤتمن، وأن «تراب الدهب» لا يصنع سبائك، وأن اثنى عشر طفلاً حمل تنوء به الجبال. ومنذ سنوات لم يعد يقوى على استنشاق التراب ولو كان «من دهب» فى مهنته، حيث يجمع نشارة الذهب من الورش لتباع بالكيلو وتعاد وتذاب: «كانت شغلانة مكسبها شهد، بس خلاص حيله اتهد وما عدش قادر»، تحكى «عواطف» رفيقة الأعوام الأربعين: «عيالى كلهم كبروا واتوظفوا واتجوزوا إلا واحد على وشك، لكن المصيبة فى عيال ضرتى لسه قطاقيط وطالعين للدنيا وابوهم خلاص، وكل اللى حيلته معاش 450 جنيه رايح على الدوا». غرفة بمطبخ وحمام، هنا تعيش الزوجة الأولى، وفى غرفة مجاورة تعيش الثانية، علاقة جيدة جمعت بين الزوجتين، ربما تحسنت بعد مرض الزوج و«قلة الحِيل»، لا يشغل بال الست عواطف سوى علاج الزوج: «لو ما خدش العلاج هيروح مننا، صحيح هو بقى تعبان ومش واعى، وكبده اتبهدل، بس وجوده وسطينا بالدنيا وما فيها حتى لو عضم فى قفة». لم تعد «عواطف» تحمل هماً لمأكل أو مشرب فهى تعلم «أن ربنا ما بيشقش بق ويسيبه جعان»، يقين بداخلها هو سر صبرها على كفاف الحال وعقوق الأبناء: «انشغلوا بحياتهم كل واحد فاتح بيت وعنده عياله، هيعملولنا احنا إيه بقى؟ يلّا حسن الختام»، تحكى «عواطف» عن آخر مرة رأت فيها أحد أبنائها منذ ما يقارب الشهر: «مش عارفة هيفتكرونا فى العيد ولّا هينشغلوا بعيالهم»، فيما تمسح دموعها وتتذكر الثلاجة الفارغة: «هى مش بس فاضية ومافيهاش حاجة، لأ كمان بايظة ومش معايا فلوس أصلحها، وهصلحها ليه يعنى؟». «خمسون جنيها» يتذكرها بها أحد الأبناء بين الوقت والآخر، تعينها يوماً أو يومين، وربما تذهب سداداً لدين أو إيجار فى لحظتها: «لو ما دفعناش الإيجار هنترمى فى الشارع، طب هنعمل إيه، ناكل ولّا نسكن ولّا نجيب دوا ولّا نموت ونرتاح من كل ده؟». لا دلالة هنا على عيد قادم، فبين عم شاكر الجالس على الكنبة والست عواطف على كرسيها المتسع والثلاجة الفارغة تموء القطة من جوعها وتقاوم الست عواطف جوعها بالصيام فى انتظار العيد: «ربنا بيرزقنا زى ما بيرزق الطير فى السما، ولو حد من عيالى افتكرنى قبل العيد هاجيب لحمة، ولو ما فيش يبقى انا والراجل هنسيب تكالنا على الله، وهو قادر يبعتلنا الرزق».