تجلس القرفصاء واضعة يدها المرتعشة على خدها الأيمن، لا تأبه بشىء سوى أولادها الخمسة الذين تركتهم داخل قرية «إنخل» التابعة لمحافظة درعا السورية. لا تتذكر شيئاً سوى الأنباء التى سمعتها منذ 4 أشهر عن تعرض المدينة للقصف المتواصل من قبَل الجيش الأسدى وأن أولادها ما زالوا عالقين فى القرية. تومئ برأسها تجاه الطريق الذى يكسوه غبار أبيض أسقطته عواصف ترابية على خيام «الزعترى» القابعة على بعد 10 كيلومترات من الحدود السورية، أملاً فى أن ترى أحدهم قد تمكّن من الفرار واللحاق بها فى المخيم الذى أعدته الحكومة الأردنية للاجئين السوريين قبل 4 أشهر، تلتفت إلى جيرانها الوافد أغلبهم من محافظات الجنوب السورية «درعا وريف دمشق وحمص» لعل أحدهم يمدها بخبر عن قريتها «إنخل»، لكن دون جدوى. تقبع السيدة التى لا يظهر من وجهها سوى نصفه الأيمن، بعدما أخفى حجابها الأسود الذى التحفت به على الطريقة الشامية القديمة النصف الأيسر، تقص على جيرانها ما حدث لها قبل 4 أشهر، أى قبل وصولها إلى «الزعترى»، قائلة: «أنا مقيمة فى قرية اسمها نمر، ولدىّ من الأولاد 6 جميعهم مقيمون فى قرية إنخل التى لا تبعد عنى سوى 12 كيلومتراً، وقتها سمعت أخباراً عن وقوع هجمات من الجيش الأسدى على القرية فلم أتمالك نفسى وقررت التوجه إلى القرية للاطمئنان على أولادى وأحفادى». تعتدل السيدة فى جلستها محاولة لملمة كلماتها، وتقول: «بمجرد وصولى إلى القرية انهالت الصواريخ علينا لتمنعنى من مواصلة طريقى إلى أولادى فى الوقت الذى ظهرت فيه سيارة صغيرة تنادى على الموجودين فى الشارع لمن يرغب فى الخروج من القرية باللحاق بها». هرولت السيدة العجوز، حسب قولها، إلى السيارة محاولة الهروب من القصف الأسدى، ولم تعلم وجهتها إلا بعدما ابتعدت عن مكان القصف ليخبرها السائق بأنهم متوجهون إلى الحدود السورية الأردنية هرباً من القصف المتواصل على القرية، لم تجد العجوز أمامها شيئاً سوى مواصلة التحرك باتجاه الحدود أملاً فى إيجاد الأمان الذى طالما بحثت عنه طوال ثلاثة أعوام هى عمر «الثورة السورية» على نظام بشار الأسد. وصول «بشار» إلى الحكم خلفاً لأبيه «حافظ» كانت السيدة تراه «بشرى خير»، إلا أن هذه «البشرى» تبددت عقب الأحداث التى وقعت فى المحافظة السورية «درعا»، ولم تكن السيدة العجوز هى الوحيدة التى استبشرت خيراً بوصول «بشار» إلى الحكم خلفاً لأبيه، فهذا الاستبشار وصل مداه إلى جارتها التى تبعد خيامها عنها عشرات الأمتار، وأطلقت على طفلها صاحب الأعوام الثلاثة عشر اسم «بشار»، بعدما زار الرئيس الشاب مدينتهم «درعا» فور توليه الحكم مباشرة، وقيامه بأداء الصلاة داخل المسجد العمرى دون حراسة، وهو ما أكسبه شعبية فى تلك الفترة دون أن تعلم أن مصيرها ومصير ابنها «بشار» سيكون داخل خيمة وسط صحراء دولة مجاورة. أمام باب خيمتها القماشية أعدت مظلة صغيرة لها ولأولادها الأربعة تأوى إليها طوال فترة النهار، هرباً من ارتفاع حرارة الجو داخل الخيمة التى لا يتخللها سوى حرارة الشمس الحارقة فى انتظار عودة طفلتها التى تصغر «بشار» بسنوات ثلاث من المدرسة التى أسستها منظمة «اليونيسف» ضمن عشرات المدارس داخل المخيم. ما يشغل بال الوالدة الأربعينية هو حالة ابنتها الصحية التى تتدهور يوماً بعد يوم بسبب العواصف الترابية التى لا تنقطع عن المخيم، تاركة طفلتها طريحة الفراش برفقة كمامتها الطبية التى لا تغنى ولا تسمن من جوع، بحسب رواية والداتها: «هربت أنا وزوجى وأولادى الأربعة من درعا قبل 7 أشهر خوفاً عليهم من أن يصيبهم أذى أو مكروه نتيجة القصف المتوالى على مدينتنا، خاصة بعد تعرض جميع البيوت المحيطة بنا إلى القصف والهدم». تنظر الوالدة بحنوّ إلى ابنها مداعبة إياه: «أنا خلفت متأخر، ضليت فترة طويلة لحد ما قدرت أخلف وكان صعب أضل وسط القصف أو أفقد حدا من أولادى عشان هيك هربنا للزعترى». الهروب إلى «الزعترى» لم يكن رحيماً أو رفيقاً على السيدة الأربعينة، وبالأحرى طفلتها التى تعانى «الربو»، وزوجها الذى يعانى «الديسك» فى عموده الفقرى.. هروبها وأولادها إلى «الزعترى» لم يقلل من كثرة المشاكل التى تعرضت لها، مستطردة: «الخدمات الطبية هون فى المخيم سيئة جداً وكل شىء يمشى وفقاً للمصالح، فرغم مرض زوجى واحتياجه إلى إجراء عملية جراحية بسبب مشكلته الصحية التى تمنعه عن العمل، فالطبيب يكتفى فقط بكتابة المسكنات دون فحصه وهو ما تكرر أيضاً مع طفلتى التى تعانى من الربو، فكل ما يفعله الأطباء فى المخيم هو إعطاء المسكنات لكل المرضى بغض النظر عن حالتهم الصحية». تصمت السيدة لوهلة ثم تعاود حديثها: «الغبرة بتمرض بنتى بتخليها متل الفرخ لما بترفرف، ولما بنروح للمستشفى ترفض تكشف عليها وتعطيها بس مسكنات، أنا ما بدى شىء سوى كرفانة لبنتى بدل الخيمة عشان تحميها من الغبار، على الأقل الكرفانة ليها باب وشباك ينفع أسكّرهم، أنا خلّفت متأخر، ما فى غير رحمة رب العالمين يرحمنا برحمته، لا بدّى مصارى ولا مال ولا أى شىء، بس يرحموا بنتى المريضة». محاولات عديدة وشكاوى تقدمت بها الوالدة إلى المسئولين داخل المخيم الذى يضم وفقاً لآخر إحصاء رسمى قرابة ال120 ألف لاجئ سورى، للحصول على «كرفان» وهى غرفة متنقلة مغلقة بدلاً من الخيمة، لكن محاولاتها قوبلت بوعود دون تنفيذ، قائلة: «كلمنا ناس كتير وكله مجرد كلام من غير تنفيذ، يوعدوكى عشان يسكتوكى.. استنينا شهور بدون فايدة شو بدنا نسوّى». تصرّ الوالدة، التى دمعت عيناها من شكوى حالها، على اصطحابنا لرؤية الأوضاع داخل خيمتها، فى محاولة منها لنقل أوضاعها المعيشية على الطبيعة، فتزيح الستار عن باب خيمتها لتُظهر الخيمة التى لا تتجاوز مساحتها المترين وتتسع لاستضافة 4 أفراد، فردين على كل جانب، وفى نهاية الخيمة القماشية بدا شىء يكاد يكون مختلفاً، توقفت أمامه الوالدة مرددة: «هاد زنكة اشتريتها عشان نعمل فيها مطبخ وحمام لحالى.. هاد حمامى وهاد مطبخى». أشارت الوالدة إلى «الزنكة» أى الجدار الصغير المصنوع من مادة الصفيح مقسمة إياه عرضياً إلى قسمين؛ داخلى أشبه بالحمام، وخارجى مخصص لإعداد الطعام، فهى لا تأمن على طفلتها الصغيرة من استعمال دورات المياه العمومية لقضاء حاجتها أو الاستحمام بها، خاصة مع وجود حالات تحرش تتعرض لها الفتيات داخل المخيم تصل إلى حالة الاغتصاب، ليسجل المخيم منذ تدشينه فى يوليو من العام الماضى حتى يومنا هذا 10 حالات اغتصاب، بحسب إحصائيات جهاز الأمن العام الأردنى. سوء الأوضاع المعيشية التى تعانيها الوالدة جعلتها تعمل على بيع بعض من المواد الغذائية التى تحصل عليها من المفوضية السامية لشئون اللاجئين، أملاً فى الحصول على بعض النقود لتستطيع شراء البيض والخبز لأطفالها قائلة: «باخزّن المساعدات الغذائية وبابيع المعلبات عشان نجيب فطور للأولاد، ولادى ما بياكلوا الرز والبرغل والعدس والمعلبات، باضطر أبيعهم عشان أشترى لهم بيض وخبز للفطور، فيه ناس كتير رجعت على سوريا، العيشة هون صعبة، نحنا بنموت هون ببطء من قلة الأكل لكن داخل سوريا بنموت من القصف». كلمات الوالدة حول عودة العائلات السورية إلى أراضيهم مرة أخرى طواعية، فسّرها الزحام الموجود أمام مكتب القذف، الموجود على أطراف المخيم باتجاه مكتب الأمن الأردنى، الجميع يرفض الكلام أو حتى التصوير خوفاً على أرواحهم وخاصة أنهم عائدون إلى بلادهم التى ما زال النظام يسيطر على أغلبها. الأرقام التى أعلنها مكتب القذف وصلت إلى قرابة ال50 ألف سورى، من طلبوا العودة إلى أراضيهم مرة أخرى نتيجة تردى أوضاعهم المعيشية والحياتية داخل المخيم، وهو ما فسره الرجل الستينى عبدالرؤوف مختار، النازح من قرية جاسم التابعة لمحافظة درعا قبل 6 أشهر، والذى كان حظه أوفر من غيره، حيث حصل على «كرفانة» من ضمن «الكرفانات» التى منحتها دولة قطر لعدد من النازحين السوريين. يقول الرجل الستينى الذى نزح هو وزوجته وأولاده: «فيه ناس كتير رجعت على سوريا لاستحالة المعيشة فى المخيم، فلا عمل ولا خدمات صحية جيدة، مما جعلهم يعودون إلى أراضيهم، فالموت من قلة الأكل والخدمات لن يختلف كثيراً عن الموت بقذيفة». مشاكل عدة يعايشها الرجل الستينى منذ أن وطئت قدمه «الزعترى»، بعضها يحمّل مسئوليتها للحكومة القطرية التى أهملت القطاع الذى دشنته للسوريين داخل المخيم، والبعض الآخر يحمّل مسئوليته للتنسيقات السورية التى تتلقى التبرعات من السوريين بالخارج وتحتفظ بها دون أن تسلمها إلى من يستحقها من أبناء الشعب السورى الذى يواجه أطفاله وكبار السن فيه مشاكل وأمراضاً بسبب سوء التغذية الناتجة من عدم توفر المواد الغذائية. بنبرة حادة غاضبة يشرح الرجل الستينى الأوضاع داخل «الزعترى» قائلاً: «العيشة فى المخيم قاسية جداً، الأكل ردىء وهناك أمراض يعانى منها الأطفال وكبار السن من النساء والرجال بسبب سوء التغذية مثل اليرقان والقىء والإسهال الشديد، ولا نجد فى المقابل أى خدمات طبية جيدة».. يشير الرجل إلى حفيده الذى لم يبلغ من العمر أصابع اليد الواحدة فيقول: «تعرض حفيدى لتورم فى الخصية فتوجهت به إلى أحد المراكز الطبية فى المخيم فطلب منى الطبيب وقتها إجراء تصوير (أشعة) تكلفتها 50 ديناراً لكى يشخص حالته»، يقلب الرجل كفيه مستطرداً: «كيف لى أن أوفر 50 ديناراً أردنياً، أستطيع أن أقول بكل ثقة إن أغنى سورى فى المخيم لا يملك أكثر من 3 آلاف ليرة أى ما يعادل 16 ديناراً أردنياً». تساؤلات كثيرة يطرحها الرجل بعضها يجد عنه إجابة ويعجز عن إجابة البعض الآخر، فالأخبار التى تتواتر عن تقديم الدول مساعدات للسوريين بملايين الدولارات لا يجد منها شيئاً على أرض الواقع حتى خلال شهر رمضان الماضى، ويتابع: «نسمع أخباراً عن وصول مساعدات للاجئين السوريين وخاصة المساعدات الرمضانية ولا يعلم أصحاب المساعدات أن الأهالى كانوا يفطرون ويتسحرون على شوربة العدس لدرجة وصلت إلى أن أغلب السوريين لم يفطروا فى رمضان من قلة الأكل». اتهامات واضحة ومباشرة يكيلها «جاسم الدرعاوى» للتنسيقات بأنهم «أصحاب نفوس ضعيفة ولا يقومون بتوصيل المساعدات من المانحين إلى من يستحقها»، مردداً: «التبرعات التى تأتى لنا من السوريين المقيمين فى الخارج وخاصة دول الخليج عبر التنسيقيات لا تصلنا، نفسنا المتبرع ييجى يشوف الأوضاع على أرض الواقع، يشوف إن السوريين يعيشون على البطاطا والباذنجان والبندورة وأن الفروج لم يدخل أجوافهم منذ 6 أشهر على الأقل». رسالة كررها الرجل الدرعاوى أكثر من مرة متمنياً أن تصل رسالته إلى السوريين المغتربين: «لا أحد يملك أكثر من 3 آلاف ليرة سورى، ما يكفوا لأكثر من 5 أيام، إحنا خايفين من فصل الشتاء القادم، لا يوجد تدفئة أو لباس أو أحذية أو بطاطين، وصّلنا شكوانا لأكثر من مرة إلى المشرفين على القطاع القطرى بالمخيم وإلى تنسيقيات الثورة الموجودة فى الأردن خارج المخيم، ولكن لا حياة لمن تنادى، وعتابنا الخاص على التنسيقيات اللى عايشين فى رفاهية وقاعدين فى بيوت وفيلات». يضيف الرجل فى رسالته لأشقائه السوريين بالخارج: «نفسنا المتبرعين ييجوا يشوفوا عيشتنا ولا يسمعوا لكلام التنسيقيات بأن المخيم فيه حرامية ومشاكل، ولا نعلم لماذا تحاول التنسيقيات تشويه صورة اللاجئين بالمخيم طالما أنهم يقومون كما يزعمون بتوصيل المساعدات لمستحقيها، نفسى المتبرعين يشوفوا السوريين المبتورين والجرحى وأطفال الشهداء المحتاجين إلى اهتمام وعناية، هل يعلم المتبرعون أننا نفتقد إلى اللباس والكهرباء وأن هناك أشخاصاً يحتاجون إلى عمليات جراحية عاجلة ولكن لا يجدون من يساعدهم، هل يعلم السوريون بالخارج أن سيدات سوريا أصبحن يعملن فى تنظيف الحمامات مقابل 50 ديناراً أردنياً شهريا؟». يختتم الرجل حديثه بتوجيه رسائل إلى السوريين المغتربين لزيارة المخيم لرؤية الأوضاع على أرض الواقع وعدم الأمان للتنسيقيات، متهماً إياهم بعدم توصيل المعونات والمساعدات إلى من يحتاجها.. كان ذلك آخر ما قاله، قبل أن يقطعه حفيده «مالك» الذى جاء من مدرسته مرتدياً قبعة سماوية اللون ومكتوباً عليها «اليونيسف»، جاء «مالك» وعلامات البهجة مرسومة على وجهه، ارتمى فى أحضان جده، وأخذ يقص عليه ما دار معه فى المدرسة، وكيف استقبل عامه الجديد بعدما توقف عن الدراسة عاماً كاملاً نتيحة لتدهور الأوضاع داخل سوريا. عاد الطفل إلى الدراسة وانضم إلى واحدة من 3 مدارس دشنتها منظمة الأممالمتحدة للطفولة «اليونيسف» لمساعدة الأطفال السوريين على استكمال دراستهم، والذين قدرتهم المنظمة بحوالى 30 ألف طفل فى سن الذهاب للمدارس، رغم أن عدد الأطفال الذين تم تسجيلهم حتى الآن هم 11 ألف و396 طفلاً بحسب البيان الذى أصدرته المنظمة على موقعها الإلكترونى. على بعد خطوات قلائل من الطفل «مالك» قبعت مجموعة مكونة من ثلاثة أطفال أعمارهم لا تتجاوز السنوات السبع، كل منهم ينبطح على الأرض ممسكاً بيده عصا حديدية، بعضها مثبت على الأرض بقوائم صغيرة أشبه براجمة الصواريخ والبعض الآخر يرفع عصاه فى الهواء. انقسمت المجموعة إلى جانبين؛ الأول مكون من طفلين، والجانب الآخر طفل واحد ربط مقدمة رأسه ب«شاش» ينم على جرح فى رأسه، يصرخ الطفلان مكبرين ومهللين يشيرون بأصابعهم على زميلهم فى الجانب الآخر: «الله أكبر ولله الحمد.. نحن الجيش الحر»، فيرد عليهم الطفل الآخر: «إحنا الجيش النظامى»، تظل الجمل ذهاباً وإياباً بين الجانبين ما بين مؤيد ومعارض.