لا يعنينى النص فى الدستور على أن تكون الدولة مدنية، وإنما أرجو أن يعيش المصريون فى دولة مدنية مثل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم التى تصالح أهلها وتعاهدوا على النصرة والحماية فى النفوس والأعراض والأموال، وإقرار كل صاحب دين بدينه دون التعرض له بسبب جنسه أو انتمائه الدينى أو المذهبى طالما كان هذا الانتماء لم يرتب عدواناً أو ظلماً أو انتهاكاً للآخرين. ويدل لذلك ما أخرجه ابن هشام فى «سيرته» عن ابن إسحاق أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل المدينة ميثاق تعايش، ويسميه بعض المعاصرين «دستور المدينة»؛ حيث اشتمل على التقارب بين تسع قبائل أو تجمعات غير إسلامية وتقرر النصح والنصرة بينهم وبين المسلمين على من حارب هذه الصحيفة، ومما جاء فيها: «هذا كتاب من محمد النبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس.. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأن الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبرّه». والمتأمل فى هذه الصحيفة يرى الحياة المدنية الصافية التى تحقق الأمن العام وتمكن الجميع من الانطلاق نحو الأمام فى الدنيا بالإعمار، وفى الآخرة بالإقبال على الله طوعاً لا كرهاً، كما قال سبحانه وتعالى: «لا إكراه فى الدين» (البقرة:256). ويخطئ من يظن أن النص فى الدستور على مدنية الدولة يخرجها عن إسلاميتها، فلا أحد يزعم علمه بالإسلام أكثر من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يُقبل من أحد غيرته على الدين أكثر من غيرة النبى صلى الله عليه وسلم عليه. وهو الذى عاش فى مكة بعد البعثة نحو ثلاثة عشر عاماً، وكان يأمل أن يعيش بقية عمره فيها؛ لكونها مسقط رأسه الشريف ومجتمعه الذى نشأ فيه، وأن رسالته ليست انعزالية أو إقصائية وإنما هى دعوة للتعاون الإنسانى على البر والتقوى دون الإثم والعدوان. وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينةالمنورة بدعوة من أهلها ونصرة منهم، ومكّنوه عليهم اتبع أصول الإسلام الحق فى المصالحة المجتمعية ونزع فتيل العصبية التى تفرق بين الناس ولو كان ذلك باسم الدين؛ لأن الإسلام يبرأ أن يكون سبباً لفتنة الناس وتقاتلهم. إنما يدعو الإسلام كل البشر للوقوف فى مواجهة الظالمين أو المعتدين ولو زعموا صفة الإسلام، كما قال سبحانه: «كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين» (النساء:135)، وقال تعالى: «كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» (المائدة:8). وقد اختصر النبى صلى الله عليه وسلم تلك المعانى السامية فى اسم المدينة الذى اختاره ليبقى خالداً إلى قيام الساعة دالاً عليها. فالمدينة على وزن فعيلة وفى أصلها قولان لأهل العربية حكاهما النووى فى «شرح مسلم». الأول: أنها مشتقة من دان إذا أطاع. قلت: ويمكن تفسير ذلك بطاعة الله الآمر بترك الناس وما يدينون، على أن تكون المؤاخذة بينهم بحسب الحقوق الآدمية وواجباتها. الثانى: أنها مشتقة من مدن بالمكان إذا أقام به. قلت: ويمكن تفسير ذلك باتفاق أناس مختلفين فى الدين والجنس والعرق ولكنهم متصالحون للعيش السلمى بحقوق عامة متساوية. وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المدينة التى تُعلى كرامة الإنسان وحضارته ستكون سيدة نظام الحكم فى ربوع الأرض، حتى إن الحاكم أو القاضى لن يعرف الناس بدينهم أو مذاهبهم وإنما سيعرفهم بحقوقهم أو بظلمهم، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت بقرية تأكل القرى. يقولون يثرب وهى المدينة تنفى الناس كما ينفى الكير خبث الحديد». ولعل قوله: «تأكل القرى» إشارة إلى سيادة نظامها السياسى الموصوف بالمدينة وليس يثرب التى تعنى الملامة، وقد وجدنا ذلك بإطلاق الناس لقب «المدينة» على كل حاضرة فى أنحاء الدنيا. يقول القاضى الباجى: لا معنى لقوله تأكل القرى إلا على ترجيح فضلها على غيرها وزيادتها عليها. يقول ابن عبدالبر فى «التمهيد»: وأما قوله: «تنفى الناس» فإنه أراد شرار الناس. ألا ترى أنه مثّل ذلك وشبّهه بما يصنع الكير فى الحديد، والكير إنما ينفى ردىء الحديد وخبثه ولا ينفى جيده. وهكذا ستكون أوطان الناس فى مستقبلهم الحضارى مدنية بهذا المعنى السامى شاء من شاء وأبى من أبى، فالبقاء للحق والعدل وليس البقاء لمن وصف نفسه باليهودية أو بالنصرانية أو بالإسلام. قال تعالى: «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى» (النجم:32).