كنا فى منتصف السبعينات نذهب إلى منطقة «أرض اللواء» فى محافظة الجيزة لنصلى فى مسجد «أنس بن مالك»، وكنا نشاهد هذا الشيخ المتواضع وهو يمسك ولديه بكلتا يديه، وكانت هذه المنطقة زراعية يذهب إليها الآلاف لكى يستمعوا إلى خطبة هذا الشيخ يوم الجمعة، ولم نكن نعرف سر انجذاب الجماهير إلى ذلك الرجل، وكان اسم هذا الرجل «إبراهيم عزت»، وكان هذا الشيخ يملك صفاء النفس الذى لو وُزع على أهل الأرض لكفاهم، ولكننا مع ذلك كنا نختلف معه، لأنه لا يتحدث فى السياسة ولا يطمح إلى حكم ويدعو للحكام بالهداية، فكنا نستنكر منه هذا الموقف ونتعجب من آرائه وننتقده، ونظراً إلى أن هذا الرجل هو المسئول عن فكرة جماعة التبليغ والدعوة، فكان يشرح لنا فى هدوء رسالة الإسلام التى يجب أن يبلغها الناس إلى الناس بخلق الإسلام، وأن الدعاة إلى الله حينما يقومون بالتنافس مع الناس حول مقاعد الحكم فهم يفقدون بريق الدعوة من قلوبهم ثم يزول النور من وجوههم، فيصبحون كبقية الناس فيضطرون إلى الكذب لتجميل صورتهم أو للحصول على مآربهم، ورغم أننا كنا نسخر من كلام الشيخ، فإننا سرعان ما كنا نندمج فى خطبة الجمعة، نبكى جميعاً خلفه، حتى يعلو صوت النحيب والبكاء على صوت السماعات الداخلية للمسجد، ومن الجدير بالذكر أن الشيخ إبراهيم عزت مات كما أراد وتمنى، فقد كان دائماً يتمنى على الله أن يدفن فى الأراضى الحجازية، وقد تحقق له ما أراد، فمات وهو على ظهر الباخرة متجهاً إلى المملكة العربية السعودية لأداء النسك مرتدياً زى الإحرام، وبالرغم من صدور القرار من حكومة المملكة العربية السعودية بعدم دفن الموتى الذين يموتون خارج المملكة فى «البقيع»، فإن أحد الأمراء السعوديين أخذ على عاتقه مسئولية استثناء هذه الحالة، وتم للشيخ، رحمه الله، ما أراد حياً وميتاً، ثم خلفه فى المسئولية عن جماعة التبليغ والدعوة الدكتور المرحوم شكرى عرفة، الذى لم يخرج عن نهج سلفه، فكان يقول إن اشتغال الداعية بالسياسة لن يسبغ على السياسة صدق دعوته، وإنما السياسة هى التى ستسبغ على الدعوة أوزارها، وإن الأمر يحتاج إلى تربية خاصة لا يستعجل فيها الناس أمر الحكم ولا يتكالبون عليه، وإنما يجب أن يستعدوا له ببناء القلوب واليقين فى نفوسهم، وظلت هذه هى آراء هذا النفر من أصحاب القلوب الرقيقة الذين أقسموا على الله فأبرهم، ومع ذلك فقد ظل الخلاف بيننا واسعاً، نسخر من تجاهلهم للسياسة، ونسخر من رقة قلوبهم الزائدة، ومن أنهم يتقربون من الناس جميعاً بتواضع، ويَصِلون حتى عباد البقر فى الهند، ومع ذلك لا يصلون إلى قصر الرئاسة فى مصر الجديدة، وكلما اقترب الإخوان من الحكم كنا نبتعد عن جماعة التبليغ والدعوة مئات الأمتار، ومع ذلك فقد كانت كلمات الشيخ إبراهيم عزت ثابتة فى أذهاننا، وكلما انغمسنا فى الواقع السياسى واعتقدنا أننا نِلنا من السياسة، فإذ بها هى التى تنال منا، وكل صعود على درج السياسة يقابله هبوط على درج الأخلاق، حتى أصبح حال الدعاة كما نرى، فانطفأ من وجوههم النور، وجرت الأكاذيب على ألسنتهم، وأصبحوا فى حرب مع الناس والواقع، إلا من رحم ربى طبعاً، وأصبح الحكم غاية تذل لها الأعناق وتراق بسببها الدماء وتزهق بسببها الأنفس، واختفى احترام الناس للدعاة، كما اختفى احترام الدعاة للناس، ورأيت بعينى من يزعمون أنهم يحملون كتاب الله وهم يتقاذفون الطوب والحجارة مع الذين زعموا أنهم جاءوا لهدايتهم، فأصبحنا نعيش الأكذوبة الكبرى، وعاد إلينا الشيخ إبراهيم عزت من جديد لتحيا معنا أفكاره، وتعيش كلماته، وهو يقول «إنكم تسارعتم على الحكم حتى أصبحتم تجهلون حقيقة غايتكم، وما إذا كانت هى حكم الدعوة أم هى دعوة للحكم وللتسلط والفساد؟»، لقد كنا نسخر من الشيخ إبراهيم عزت، ونحن الآن نعتذر له، وكلما نظرت إلى كرداسة أو إلى ناهيا أو إلى الأبنية المحترقة أو إلى الجنود المذبوحين أو حتى إلى الذين يزعمون أنهم بمظاهراتهم يدافعون عن الشريعة، وكلما نظرت أيضاً إلى الذين دعوا إلى ذلك الفصام والانقسام علمت أن اعتذاراً واجباً يجب أن نقدمه جميعاً إلى الذين حذرونا من أمراض القلوب ومن أن الباطل قد يلبس ثوب الحق، وأننا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سنعود بعده كفاراً يضرب بعضنا رقاب بعض، فالاعتذار الآن واجب للرسول صلى الله عليه وسلم الذى خذله المُدّعون، ثم الاعتذار إليك أيها الشيخ الجليل إبراهيم عزت، رحمك الله، فقد فهمناك الآن، وندعو الله ألا يكون قد فات الأوان.