وماذا بعد نجاح قوات الجيش والشرطة فى غزو دلجا، وسير المدرعات والمصفحات متبخترة فى شوارعها؟ هل انتهت الأزمة؟ كالعادة سنحتفل ونهيص ونتباهى بهذا الإنجاز التاريخى الباهر، والانتصار العظيم الذى تجلى بدخول قواتنا المسلحة تلك القرية بعد فرار الإرهابيين الذين كانوا يتحصنون بها.. وتوتة توتة خلصت الحدوتة. لكن الحقيقة أن الحدوتة لم تنتهِ، وليس فيها من ثمار التوت شىء، بل هى فى مرارة الحنظل. هذا أمر يعرفه جيداً 120 ألف مواطن يسكنون دلجا، أو «جلدة» كما يسمونها، فالقرية مترامية الأطراف الواقعة على حدود الصحراء الغربية، والتى تنفرد بين قرى مصر بأنها أضخم مساحة من مدينة المركز الذى تتبعه «ديرمواس»، لم تفعل شيئاً غريباً أو خارجاً على نظامها الذى تعيش به منذ عقود. يعرف مواطنو القرى والمدن القريبة من دلجا، مثل ملوى وديرمواس، أن مجرد دخول المدرعات والمصفحات وتحليق الطائرات فى سماء «جلدة» لن يحل الأزمة، بل سيصنع هدنة مؤقتة، وأن القرية ومعها قرى مجاورة مثل تندة والبدرمان وتونة الجبل وكودية الإسلام «كودية النصارى سابقا»، تحتاج إلى مدرعات من نوع آخر تغزو العقول والقلوب التى اختارت أن تكون مأوى للجماعة الإسلامية ولتنظيم الإخوان التكفيرى الإرهابى. لم يكن فض اعتصام الإرهاب فى «رابعة»، سوى شرارة أشعلت فتيلاً كان موجوداً بالفعل فى «جلدة»، فالقرية مشهورة بالطائفية، لا تخطئ العين طائر الفتنة يحوم فوقها بأجنحته السوداء، وطوال الثلاثين سنة الماضية كانت القرية طاردة لأبنائها المسلمين المثقفين والعائلات المسيحية على حد سواء، وتركوا فيها عشر عائلات كبرى تسمى «شياخات» تتقاسم النفوذ والثراء وتتراقص على السلالم بين التطرف والحزب الوطنى، وأذكر أن أصدقائى فى مدينة ملوى من خريجى كلية التربية كانوا يلطمون وجوههم إذا جاءهم التعيين فى «جلدة»، وكان الأمر أشبه بكارثة إذا كان التعيين لخريجة مسيحية. أنا لا أميل إلى تحميل تنظيم الإخوان التكفيرى وحده مسئولية ما جرى فى «جلدة»، صحيح أن قيادات التكفير الإرهابى الإخوانى وحلفاءهم فى الجماعة الإسلامية «قتلة الثمانينات والتسعينات»، ربما يكونون متورطين فى التحريض على الحرق والتدمير والقتل، غير أن هؤلاء لم يفعلوا شيئاً سوى اختيار الأرض الصالحة لاستزراع الشياطين. والحوادث الطائفية فى تلك المناطق متكررة ومعتادة طوال 30 سنة، وبالتحديد منذ السنوات الأخيرة للسادات «صاحب أكبر مشاتل الإرهاب فى تاريخ مصر». ما أقصده، أن المدرعات دخلت «جلدة» وطافت شوارعها، ونحن احتفلنا فى وسائل الإعلام بالنصر المبين، وبعد أيام أو أسابيع أو حتى أشهر، ستخرج المدرعات، تاركة خلفها الأدمغة التى استراح فيها التكفيريون، فى انتظار محارق جديدة وفتن قادمة.