العلاقات المدنية العسكرية ملف شائك وخطير، له تأثير كبير على مسار التحول الديمقراطى. وقد قدمت دول العالم خبرات متنوعة فى هذا المجال، سواء من حيث نمط العلاقة أو كيفية تطورها فى اتجاه سيطرة المدنى على العسكرى لبناء ديمقراطية حقيقية. بالنسبة لطبيعة العلاقات المدنية العسكرية، يمكن التمييز بين ستة نماذج رئيسية شهدتها مختلف دول العالم، أولها النموذج الأوروبى الذى يقوم على الفصل التام بين المؤسستين، مع تبعية المؤسسة العسكرية للمؤسسة المدنية بشكل كامل. وعلى النقيض منه، يأتى النموذج السوفيتى والصينى الذى شكل فيه الجيش أساسا لنظام الحزب الحاكم. وتقترب الدول المتعثرة ديمقراطيا -وفى قلبها العالم العربى- من هذا النموذج، لأن المؤسسة العسكرية فيه تمتلك مقومات التأثير فى المعادلة السياسية الداخلية بسبب اعتماد الحكام على الجيوش كدعامة أساسية لحكمهم. ويتأسس النموذج الثالث فى دول أمريكا اللاتينية على عدم الثقة فى الجيش، حيث يُنظر إليه باعتباره مؤسسة قادرة فى أى وقت على التدخل فى السياسة بسبب ميراث الحكم العسكرى الذى هيمن على القارة لفترات طويلة، ولذلك هناك قناعة بضرورة إبعاد الجيش عن السياسة، واستمرار ولائه للحكومة مهما كان الثمن. فى حين ينتشر فى جنوب شرق آسيا نموذج الخروج الجزئى للمؤسسة العسكرية من المجال السياسى والاقتصادى. أما النموذج الأمريكى فهو مختلف، وعلى الرغم من اشتراكه مع النموذج الأوروبى فى تبعية المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية، فإنه نموذج يقوم على المهنية، وعلى قبول دور مباشر لها -كإحدى جماعات الضغط- فى كثير من القضايا العامة خاصة الأمنية منها أو التى لها علاقة بالسياسة الخارجية. ولأننا فى مرحلة انتقالية صعبة تُدشن لنظام سياسى جديد، يدور السؤال الأهم حول أكثر الأساليب انتشارا وفعالية للتحول إلى النماذج الأكثر ديمقراطية والتى تبتعد فيها المؤسسة العسكرية عن المجال السياسى. هنا يمكن التمييز بين مسارين رئيسيين: أولهما مسار التفاوض بين النخبة العسكرية من داخل النظام مع المعارضة من خارجه، وهو المسار الغالب فى أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، سواء بتقديم بعض التنازلات من أجل الخروج الآمن (مثل تشيلى والسلفادور)، أو إعلان القادة العسكريين رغبتهم فى الانسحاب (مثل الإكوادور وبيرو وبوليفيا)، أو تسليم السلطة مرحليا بالانفتاح السياسى (مثل كوريا الجنوبية والبرازيل). ثانيهما مسار الضغط التدريجى المحسوب لسحب البساط من تحت أقدام المؤسسة العسكرية، بدون صدام مع استخدام الأدوات القانونية (مثل تركيا). ومن ثم تُعلمنا تجارب العالم أن إعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية عملية ممتدة تقوم على التدرج فى الإنجاز، وعلى فتح قنوات للحوار، وعلى استثمار الوقت لصالح بناء مناخ يدفع العسكر بعيدا عن العمل السياسى ويُقربهم أكثر من مهمتهم الأصلية ألا وهى الدفاع عن الأوطان.