من الضرورى إعادة الاعتبار إلى أساسيات الفكر الليبرالى فى المجتمع المصرى، حيث يستشرى بين البسطاء فهم مغلوط، تروج له قوى سياسية مغرضة، يعطى قدسية لرأى أو موقف أغلبية ما، كما تبدت فى نتائج صناديق الانتخاب فى حقبة زمنية، مع أن الأغلبية متغيرة بالطبيعة، فمن حظى بأغلبية أمس قد ينتهى بأقلية فى المستقبل، خاصة إن أخفق جليا بعد حصوله على الأغلبية. كذلك تفشى فى مصر، بعد الموجة الثانية من الثورة الشعبية العظيمة فى يولية 2013، موقف، نراه انتهازيا على أفضل تقدير، يتخذه البعض فى السلطة، ومن خارجها من الطامحين لها، مؤداه محاولة التوفيق بين طموح الشعب الكاسح إلى التمتع بتمام الحرية ومصالح قوى ظلامية فاشية معادية للحرية، بحجة التمسك بالليبرالية، بينما أعينهم على إرضاء القوى الخارجية المتحالفة مع اليمين المتأسلم فى مصر، لأسباب لا تمت لمصلحة الشعب، أو قيم الحرية والليبرالية بأى صلة. وليس الموقفان فى نظرى من الليبرالية أو الديمقراطية السليمة فى شىء، بل فيهما إهدار جسيم لجوهر الليبرالية الأصيل. فجوهر الليبرالية هو الحفاظ بضراوة على قيمة الحرية سبيلا للإبداع والتقدم، وليس الوسطية الرديئة بين الأضداد السياسيين. ولا بأس من العودة لبعض الأصول التاريخية والفكرية. عبر التاريخ ظلت الحرية تحمل إرادة حرة، تقف رافضة لكل ما هو غير قادر على التعايش مع هذه الحرية، كما تظل الذات الواعية بذاتها هى القادرة على إحداث فعل الحرية. ويتحرك فعل الحرية فى صورة ديناميكية، تجعل من الإرادة الحرة إرادة قادرة على التمرد، ومن ثم إحداث فعل المقاومة. فى اليونان القديمة مثلا انتفت الحقوق، فكان العبد بلا حق. ولكن هذه النزعة الإقصائية لم تكن لتقضى على وعى الفرد بذاته وبوعى الفرد بفرديته، بإرادته التى لا تحكمها الإرادة العليا فى المجتمع، وإنما تحكمها ذاتها، فكانت ثورة العبيد التى قادها «سبارتاكوس»، فالإرادة إن شئنا تكمن داخل الروح. ويجعل «ألبير كامو» من التمرد سلوكا حتميا وضروريا، فى حالة توافر الاطلاع والشعور بالحقوق، فالحق هو المطلب الرئيسى، حتى إنه يكافئ بين المتمرد والمواطن، وبين المواطن والمقاوم للاستبداد. ولم ير «كانط» فى الانتفاض على الطاغية وخلعه عن عرشه افتراء عليه. وبينما يؤسس الفكر الليبرالى لمفاهيم الحرية والديمقراطية، لا يولى عناية كبيرة لعملية التحرر من القهر. وليس من غرابة، حيث نشأ الفكر الليبرالى فى ديمقراطيات مستقرة أو فى طور التشكل إيجابيا. ولكن لا يخلو الأمر من إشارات ذات دلالة فى الكتابات الأحدث نسبيا عن ديناميات القهر وتدويمه، لها رجع صدى فى الأوضاع الراهنة فى البلدان العربية. فينتقد «إيزايا برلين» أنظمة الحكم الأبوية، لأنها مهما كانت كريمة أو عقلانية، تميل إلى معاملة غالبية البشر كقصر، أو قليلى المسئولية، ناقصى النضج، حتى لا يستحقوا الحرية فى المستقبل القريب، أى، حقيقة، لا يستحقونها على الإطلاق. وهذه سياسة لا تقوم على أساس علمى أو منطقى، بل على تصور ممعن فى الخطأ عن الحاجة البشرية الأعلى، أى الحرية. ففى غياب الحرية تسود المجتمع الوسطية الرديئة، والبشر الإمّعات، فى محيط من القهر والفقر. ويحذر المفكر نفسه من أن ينجح الطاغية، أو أعوانه المستترون، فى حفز رعاياه على التعامى عن رغباتهم الأصلية واحتضان نمط الحياة الذى يتيحه لهم، إذ فى هذه الحالة يكون قد نجح فى تزييف شعورهم بالحرية. ومن حقنا، عند «جون ستيوارت ميل»، أحد الآباء المؤسسين لليبرالية، أن نناقش، أو نختلف، أو نهاجم أو نرفض، أو حتى ندين بعنف، رأيا ما، ولكن ليس من حقنا على الإطلاق أن نحبسه. لأن حبس الرأى يفتك بالغث والسمين على حد سواء، ولا يقل عن انتحار جماعى، فكريا وأخلاقيا. إذ بدون حق الاحتجاج، والقدرة عليه، لا يمكن أن تكون هناك عدالة، ولا غاية تسحق السعى من أجلها. وبدون تمام حرية الرأى والنقاش، لا يمكن للحقيقة أن تتجلّى. ولهذا، فلو لم يكن هناك معارضون بحق لتوجب علينا، فى نظره، أن نبتدع حججا ضد أنفسنا حتى نبقى فى حالة من «اللياقة الفكرية». وفى هذا يقول «إذا اجتمعت البشرية، ما عدا واحدا، على رأى واحد. فليس لدى البشرية مبرر أقوى لإسكات ذلك الشخص الوحيد عما يكون له من مبرر، لو كان هو فى السلطة، لإسكات البشرية جمعاء». وهكذا، يربط «جون ستيوارت ميل» وثيقاً بين الحرية، بخاصة حرية الفكر والنقاش، وبين الإبداع والتقدم الإنسانى. فالمحرك الأساسى للتقدم عنده، متأثرا بالمفكر الألمانى «فيلهلم فون همبولدت»، هو تزاوج «الحرية والتنوع» المؤديين إلى الفرادة والابتكار، ضدا للتهافتية، أو الرداءة، التى تنجم عن مجرد الاتباع. ولم يستثن من هذا التوجه مسألة الحرية ذاتها، حيث اعتبر فى مقدمة كتابه أن قضايا الحرية يتعين أن يعاد طرحها على البشرية مجددا كلما تغيرت ظروف البشر. مع ذلك، يرى الديمقراطيون المتزمتون ضرورة حسم أكبر عدد ممكن من القضايا وفقا لرأى الأغلبية، حيث تعنى السيادة للشعب عندهم أن سلطة الأغلبية غير محدودة ولا يجب تقييدها. وكأن مثال الديمقراطية الذى نشأ فى الأساس لمنع تعسف السلطة، يمكن أن يبرر قيام سلطة تعسفية جديدة قوامها استبداد الأغلبية. من ناحية أخرى، يعتقد أنصار الحرية الأنقياء فى وضع حدود على المسائل التى يمكن أن تحسم برأى الأغلبية. بل إنه يجب تقييد سلطة أى أغلبية، وقتية بالتعريف، بمبادئ يتعين أن تسود فى الأجل الطويل. فقرارات الأغلبية تعبر عما يريده الناس، ممثلين بالأغلبية، فى حقبة زمنية معينة، ولكنها لا تحدد ما يحقق مصالحهم لو كانوا أوسع معرفة (كما يحدث عادة بمرور الزمن). والمؤكد أنه ليس هناك أى مبرر أخلاقى لتمنح أى أغلبية ميزات لأعضائها، مميزة بذلك ضد من لا ينتمون إليها. كما أن التقدم عادة ما يتمثل فى اقتناع الأكثرية برأى أقلية ناقدة. وبينما يقال إن «الديمقراطية هى الحكم من خلال النقاش» إلا أن هذا يعبر عن المرحلة الأخيرة من عملية اتخاذ القرار، التى توزن فيها مزايا وعيوب بدائل الاختيار. وليست هذه «الأداة» سبيل الناس للتعلم والاستنارة. ولا تنبع قرارات الأغلبية بالضرورة من حكمة رصينة، فهى عادة نتاج مساومة وأنصاف حلول قد لا ترضى أحدا بالكامل. بل قد تكون أقل قيمة من قرار أحكم أعضاء المجتمع بعد تمحيصهم لجميع الآراء. ولذلك فإن نجاح المجتمع فى ضمان الحرية وصيانتها، بما فى ذلك حمايتها من استبداد الأغلبية، يقتضى وجود مجال عام (لمنظمات المجتمع المدنى) فسيح ومستقل عن سيطرة الأغلبية تتكوّن فيه آراء الأفراد، ويمكنهم التعبير عنها. ومن هنا تتأكد الصلة العضوية بين الحرية، بالمعنى الشامل، والحريات المفتاح للرأى والتعبير والتنظيم. حيث تضمن حرية الرأى أن يكوّن الإنسان موقفا تجاه القضايا المجتمعية، بينما تضمن حرية التعبير إمكان إفصاح الإنسان عن هذه المواقف، بما يؤدى لإذكاء النقاش حول القضايا، وتشكل حرية التنظيم ضمانة لانتظام الناس فى مؤسسات تتبنى المواقف وتعمل من أجلها فى المجال العام للمجتمع. ويرى بعض المفكرين الليبراليين الغربيين (فردريك هايك مثلا) أن المفكر السياسى يخدم الديمقراطية أفضل ما يمكن بمعارضة الأغلبية، وأن عليه أن يظن فى نفسه الظنون متى ما وجد آراءه بالغة الذيوع. أما «المفكر» الذى يتبنى موقفا لمجرد أنه رأى الأغلبية فقد خان ليس فقط دوره المجتمعى، بل الحرية ذاتها.