من الضروري إعادة الاعتبار إلي أساسيات الفكر الليبرالي في المجتمع المصري, حيث ساد في السنوات الأخيرة, مع تزاوج الحكم التسلطي من الرأسمالية المنفلتة, مفهوم قاصر لليبرالية المحدثة, يقصرها علي الحرية المطلقة لرأس المال وحافز الربح, ولو علي حساب الحريات المدنية والسياسية, وفي هذا إهدار جسيم لجوهر الليبرالية الأصيل. كما يستشري بين البسطاء فهم مغلوط يعطي قدسية لرأي أو موقف الأغلبية, ونجده متفشيا في مصر الآن, وليس من الليبرالية أو الديموقراطية في شيء. لم يكن جون ستيوارت ميل, أحد الآباء المؤسسين لليبرالية, مطمئنا لأن يحمي المجتمع الديمقراطي, تلقائيا, وحرية الأفراد والأقليات. وزاد علي ذلك تخوفا من أن تخضع الآلية الديمقراطية جميع نواحي الحياة للضبط من قبل السلطة, منشئة بذلك استبداد الأغلبية, فانبري للبحث في خصائص النشاطات المرشحة للإعفاء من الضبط الحكومي. ولكنه لم يقصر تخوفه علي الحكومة المؤسسية ولكنه تطير أيضا من حكومة الرأي العام, أو الإكراه غير الرسمي الذي يتعرض له من يعتنقون أفكارا أو أنماط سلوك متفردة. من حقنا, عند جون ستيوارت أن نناقش, أو نختلف, أو نهاجم أو نرفض, أو حتي ندين بعنف, رأيا ما, ولكن ليس من حقنا علي الإطلاق أن نحبسه. لأن حبس الرأي يفتك بالغث والسمين علي حد سواء, ولا يقل عن انتحار جماعي, فكريا و أخلاقيا. إذ بدون حق الاحتجاج, والقدرة عليه, لا يمكن أن تكون هناك عدالة, ولا غاية تستحق السعي من أجلها. وبدون تمام حرية الرأي والنقاش, لا يمكن للحقيقة أن تتجلي. ولهذا, فلو لم يكن هناك معارضون بحق لتوجب علينا, في نظره, أن نبتدع حججا ضد أنفسنا حتي نبقي في حالة من اللياقة الفكرية. وفي هذا يقول إذا اجتمعت البشرية, ما عدا واحدا, علي رأي واحد. فليس لدي البشرية مبرر أقوي لإسكات ذلك الشخص الوحيد عما يكون له من مبرر, لو كان هو في السلطة, لإسكات البشرية جمعاء. وهكذا, يربط جون ستيوارت ربطا وثيقا بين الحرية, بخاصة حرية الفكر والنقاش, وبين الإبداع والتقدم الإنساني. فالمحرك الأساسي للتقدم عنده, متأثرا بالمفكر الألماني فيلهلم فون همبولدت, هو تزاوج الحرية والتنوع المؤديان إلي الفرادة والابتكار, ضدا للتهافتية, أو الرداءة, التي تنجم عن مجرد الاتباع. ولم يستثن من هذا التوجه مسألة الحرية ذاتها حيث اعتبر في مقدمة كتابه أن قضايا الحرية يتعين أن يعاد طرحها علي البشرية مجددا كلما تغيرت ظروف البشر. مع ذلك, يري الديمقراطيون المتزمتون ضرورة حسم أكبر عدد ممكن من القضايا وفقا لرأي الأغلبية, حيث تعني السيادة للشعب عندهم أن سلطة الأغلبية غير محدودة ولا يجب تقييدها. وكأن مثال الديمقراطية الذي نشأ في الأساس لمنع تعسف السلطة, يمكن أن يبرر قيام سلطة تعسفية جديدة قوامها استبداد الأغلبية. من ناحية أخري, يعتقد أنصار الحرية الأنقياء في وضع حدود علي المسائل التي يمكن أن تحسم برأي الأغلبية. بل إنه يجب تقييد سلطة أي أغلبية, وقتية بالتعريف, بمبادئ يتعين أن تسود في الأجل الطويل. فقرارات الأغلبية تعبر عما يريده الناس, ممثلين بالأغلبية, في حقبة زمنية معينة, ولكنها لا تحدد ما يحقق مصالحهم لو كانوا أوسع معرفة( كما يحدث عادة بمرور الزمن). والمؤكد أنه ليس هناك أي مبرر أخلاقي لتمنح أي أغلبية ميزات لأعضائها مميزة بذلك ضد من لا ينتمون إليها. كما أن التقدم عادة ما يتمثل في اقتناع الأكثرية برأي أقلية ناقدة. وبينما يقال أن الديمقراطية هي الحكم من خلال النقاش إلا إن هذا يعبر عن المرحلة الأخيرة من عملية اتخاذ القرار التي توزن فيها مزايا وعيوب بدائل الاختيار. وليست هذه الأداة سبيل الناس للتعلم والاستنارة. ولا تنبع قرارات الأغلبية بالضرورة من حكمة رصينة, فهي عادة نتاج مساومة وأنصاف حلول قد لا ترضي أحدا بالكامل. بل قد تكون أقل قيمة من قرار أحكم أعضاء المجتمع بعد تمحيصهم لجميع الآراء. ولذلك فإن نجاح المجتمع في ضمان الحرية وصيانتها, بما في ذلك حمايتها من استبداد الأغلبية, يقتضي وجود مجال عام( لمنظمات المجتمع المدني) فسيح ومستقل عن سيطرة الأغلبية تتكون فيه آراء الأفراد, ويمكنهم التعبير عنها. ومن هنا تتأكد الصلة العضوية بين الحرية, بالمعني الشامل, والحريات المفتاح للرأي والتعبير والتنظيم. حيث تضمن حرية الرأي أن يكون الإنسان موقفا تجاه القضايا المجتمعية, بينما تضمن حرية التعبير إمكان إفصاح الإنسان عن هذه المواقف بما يؤدي لإذكاء النقاش حول القضايا, وتشكل حرية التنظيم ضمانة لانتظام الناس في مؤسسات تتبني المواقف وتعمل من أجلها في المجال العام للمجتمع. ويري بعض المفكرين الليبراليين الغربيين( فردريك هايك مثلا) أن المفكر السياسي يخدم الديمقراطية أفضل ما يمكن بمعارضة الأغلبية, وأن عليه أن يظن في نفسه الظنون متي ما وجد آراءه بالغة الذيوع. أما المفكر الذي يتبني موقفا لمجرد أنه رأي الأغلبية فقد خان ليس فقط دوره المجتمعي, بل الحرية ذاتها.